سعت القاصة سهام العبودي في مجموعتها الجديدة «ظل الفراغ» إلى استشعار أهمية التكثيف والاقتضاب في بناء مفرداتها السردية التي تومئ للأحداث على نحو حاذق، لكي تصل الفكرة المطلوبة إلى هدفها دون إطالة حكائية، أو ترهل لفضي.
عُنِيت الكاتبة في مجموعتها الجديدة بتفاصيل السرد الهادف لفكرة الومض المتأنق الذي يظهر الحكاية تلو الأخرى مسكونة بجنون المشهد الأليم تارة كما في قصة «روتين» حينما تعبر الطفولة في شقيها «الصبيان» و»الصبايا» نحو اليفاعة والنضج، وتارة في تلك المرأة التي تقبع على حافة النافذة لتجسد ضجرها جراء منغصات كثيرة أهمها الفراغ والبطالة والضجر.
في قصة «وجهان» رسم سردي متقن برعت سهام في دوزنة توليفته حتى بات الفراغ متناغماً بين النقيضين وهما: حالتا (التعالي) و(الوضاعة) في مشهد الحياة في ديباجة حديث الحارة القديم حيث استطاعت الكاتبة جسر هذه الهوة بين حالتي الرجل الذي يبدو للرائي بصورتين أمام العالم كبير مارد، ومتوحش مخيف، إلا أنه لا يلبث إلا وينهار في خباء وحدته، ليبيت في سريره كطفل يمص إصبعه.
فالقصة قياس واقعي فطن يوعز للذائقة أن تتفتح على معطيات عجز الحياة عن مجاراة التحول النوعي للناس الذين يظهرون بعدة صور حتى أنك قد تحتار في مثل هذه الصور لدى شخصية القصة فأي الوجهان هما الحقيقي في هذا الرجل.
تستحضر الكاتبة سهام صوراً إنسانية شتى على نحو سيزف في قصة «إرث» وقبله سهيل بن أبي كاهل في نص «شراك» فهذه الصور التي تتساوق ظلت تومض إلى وجود حقائق لا بد من مكاشفتها كحالة واقعة لا بد لنا الإذعان لتفاصيلها على نحو نهايات الطغاة في قصة «تدوير» التي تشير تفاعلتها السردية إلى حقيقة الخطر القائم من هؤلاء الذين نسمع دائماً أنهم ذهبوا إلى مزابل التاريخ، إلا أنهم يعودون (مدورين) كما تقول القصة وهم أكثر أذى.
فنص أو قصة «تدوير» حقيقة جاءت على هيئة ومضة عالية من النقد اللاذع، وفرصة بوح واعٍ يسكن هذه الكاتبة التي اقتنصت هذا المشهد القوي والمؤثر حيث لا نجد للشر والطغيان أي نهاية، فكلما نُسِفوا ونُزِحوا نحو مزبلة التاريخ تظهر التكنولوجيا بدهاء مخرب لتقوم بطريقة أو بأخرى بتدوير هذه المسوخات التي كدنا أن نحسبها من ركام الماضي إنما نجدها باتت مهيأة لأن تظهر من جديد كحالة من البلاء المستعصي على الحل.
فرغم ما أومأت إليه القاصة النابهة في نصها القصير من أن الطغاة لا يموتون أو يفنون حتى وهم في مجمع النفايات إلا أنها ظلت على توافق مع الأمل حينما أشارت قبل الخاتمة إلى فئة (التائبين منهم) حينما يقدمون حياتهم الجديد قرباناً لآثام ستقع.
القصص المتوامضة في هذه المجموعة تثير جدلاً استدلالياً جميلاً حول قيم ومعانٍ ظلت لعقود بل وقرون صلدة وجامدة وشبه أيقونات متحجرة لا يقوى أي نص أو فعل معرفي مناجزتها وكشف سوأتها، إلا أن نصوص مجموعة «ظل الفراغ» برعت في اقتفاء حساسية هذا الخطاب لتنال منه في النقد اللاذع، والتأمل السردي المدهش الذي يلخص ما هو سائد ليظهر للقارئ بوصفه حالة قابلة للنقاش.
فهوية النصوص في هذه المجموعة واضحة، إذ تتكئ الكاتبة سهام على حقيقة مشروعية الطرح المعبر عن فكرة القياس أو المقاربة بين حدث آني نعيشه الآن، وبين سلطة حكاية قديمة تتوارد فيه الكثير من الشواهد، لتكتسب النصوص من هذه المقاربات الذهنية هوية النقد أو كشف الحقيقة التي تتمترس عادة خلف سياجات الماضي، فلكل نص أو حكاية أو قصة هويتها التاريخية المتدرجة من الدار القديم، ومن الشارع المغبر ومن الحي القديم ببيوته المتطامنة ومن ثم الماضي وما يحويه من صور شتى، فالكاتبة نزعت إلى الإيحاء بتجسيد حقيقة التقاطع بين الواقع وكل ما هو ماضوي لتسند للشخوص إمكانات البوح بما لديهم من رؤى وتجليات تتسم بالوعي.
خرجت مجموعة «ظل الفراغ» القصصية بإشارات وعي واضح، وبنقد يكاشف ويقارب بهدؤ وتلقائية دون حاجة للإطالة واستدعاء الأمثال والصور والمواقف فاللحظة الاستشرافية للحالة الإنسانية هي أبرز ما يحدد هذا التوجه للكاتبة في نبشها للخبيء من الصور، وتفتيشها عن جوهرة الحقيقة بين ركام الحكايات المتعاقبة منذ الأزل.
* * *
إشارة:
ظل الفراغ (قصص)
سهام العبودي
دار المفردات بالرياض 1430هـ، 2009م
تقع المجموعة في نحو 70 صفحة من القطع الصغير