حظيت ليالي الخرطوم بالإبداع السعودي الذي احتفت به في النصف الأول من شهر أكتوبر للعام الميلادي 2009م.
وكان مما أتحف عشاق الأدب والشعر، هذه القصيدة الرائعة، التي تتوسط اتساع الرؤية، وعمق العبارة، وجماليات الصورة المبهرة، وهي تستحضر البادية مسرحاً يفيض فضاؤه بزخات المطر، واشتعال العشق، ودخان الجنون، عبر لغةٍ دانيةٍ، مثمرةٍ، عامرةٍ بالضوء غامرةِ السقيا، وثّابةً بالعشق البدويّ المجنون.
تجاوزت القصيدة عند مدخلها القيمة الجمالية الكلاسيكية التي امتلأ منها ديوان الشعر العربي، المتمثلة في الدعاء بالسقيا، المرادف دائماً لعمق المحبة، وذلك في لوحةٍ نابضةٍ بالحياة، متلاحقة الأنفاس والألوان، تتوزع دون فواصل، على التهاب العشق، وانسكاب الشوق، واحتمالات الارتواء، والإفضاء إلى مزيد من التعلق اللا نهائي.
إننا إزاء مشهدٍ تتساوق تفاصيله الموحية بين السماء والأرض والسماء، تتبادل فيه المدركات مواقفها، ومواقعها، حتى لا يبقى غير ضجيج العشق وسكونه:
فِيِ مَوسِمِ الأَمْطَارِ
حِينَ يَسِيلُ شَهْدُ القَطْرِ
فَوْق لَهيبِ ثَغْرِ النّارِ
يَتَصَبَّبُ البدوي عشقاً..
أَو يُجَنُّ
وفِي رِوَاية هائِم:
قد يمطر البدوي شوقاً..
أو يَحِنُّ!
يَشِفُ إِنْ شَفَّتْ عَنَاقِيدُ النُّجُومِ..
يَخِفُ مِنْ وَلَهٍ، إِلَى شَفَةِ الغُيُومِ
وإِذا هَمَا غَيمٌ عَلَى أعْجَازِِ غَيمٍ..
يَطْمَئنُّ.
تتمتع هذه الافتتاحية بقدرتها الإيحائية الفائقة، على الإحالة التلقائية المدهشة، إلى شتى المشاهد الجامعة بين العشق والمطر والبادية، ومن ذلك دعاء أبي العلاء المعرّي:
يا ساهر البرق أيقظ راقد السمر
لعل بالجزع أعواناً على السهر
وإن بخلت عن الأحياء كلهم
فاسق المواطر حياً من بني مطر
وتعدى دعاء المطر قيود المكان، إلى رحابة الزمان عند لسان الدين الخطيب حيث يقول:
جادك الغيث إذا الغيث هما
يا زمان الوصل بالأندلس
وقد أورد الشيخ محمد سعيد العبّاسي رائد نهضة الشعر في السودان دعاءه بالمطر المرادف للعشق في بادية (مليط):
حياك مليط صوب العارض الغادي
وجاد واديك ذي الجنات من وادي
وقال في قصيدةٍ أخرى امتلأ صدرها عشقاً:
يا برق طالع ربا (الحمرا) وزهرتها،
واسق المنازل غيداقاً فغيداقا
وإن مررت على الحِتّان حيِّ به
من المناشط قيصوماً وطُبّاقا
ومن إذا سمعوا من نحونا خبرا
والليل داجٍ أقاموا الليل إيراقا
وإن كان العشق مسكوتاً عنه قديماً، لتأويله على المنطوق به استناداً على العهد الذهني، فإنه عند روضة الحاج واضح النبر، كامل التصريح، دون مواربة:
قل لي بربك سيدي:
من لي إذا جاء المطر؟
خوفي إذا جاء المساء
وما رجعت مع القمر
خوفي إذا عاد الخريف
وما رجعت مع المطر!
أما نضال حسن الحاج، فقد جعلت من المطر حاكماً مطلقاً للعشق، لا مجرد شاهدٍ عليه:
لكنني منذ أن عشقتك..
قد عرفت الآن ما معنى المطر
فالصمت في لغتي مطر..
والبوح في صمتي مطر..
والصوت في بوحي.. مطر!
وتلتقي كل هذه الإحالات في تعبيرها عن ثنائيةٍ واضحة المعالم، متقاربة الخطوط، بيد أن المشهد الافتتاحي في (يتورط البدوي عشقاً) يكاد يخفي احتمال الثنائية بعد إذابتها في ثغر النار، الذي يسيل عليه شهد القطر، وحمى العشق المفضية إلى الجنون، والاستدراك برواية هائم بأن البدوي قد يمطر شوقاً أو يحن.
والشوق والحنين من أسمى المشاعر الإنسانية، وأكثرها التصاقاً بالنفس البدوية، وفق ما ذهب إليه العلاّمة عبد الله الطيب في كتابه القيّم: (المرشد إلى فهم أشعار العرب)، ويمثل ذلك على الأرض حين يقول: (ولا يزال أخو الصحراء يتلفت بقلبه إلى مكان إقامةٍ تركه وراءه، أو آخر ينتظره من أمامه، وما الدنيا عنده إلا معالم بين هذين الطرفين).
والبدوي على ذلك مفطور على رهافة الحسِّ، والتي لا تبقيه عند وترٍ واحدٍ من أوتار العشق، وقد برعت الشاعرة في تصوير هذا القلق المتواتر للبدوي، وهو يتقلب عشقاً بين أن يتصبب عشقاً، أو يجنُّ، وهو يمطر شوقاً أو يحنُّ، وهو قد يشف مع النجوم، أو يخف متولِّهاً إلى شفة الغيوم، أو يطمئن، إن همى غيمٌ على أعجاز غيم.
ثم إن الاستخدام المدهش للغة لدى الشاعرة، شكّل لوحاتٍ خاصة، جراء المفارقة بين المعهود والمفاجئ في كيمياء اللغة، ومن ذلك شهد القطر، ثغر النار، يتصبب عشقاً، رواية هائم، يمطر شوقاً، عناقيد النجوم، شفة الغيوم، أعجاز غيم.
بَيْد أن الدهشة لا تنفك تلاحق النص، وتنحاز إلى المفاجأة، وهي تعدد مصادر الرواية عن أن كيف يروي البدويُّ عشقه، دون أن تبدو مشاركةً فيها - رواية هائم، يَروِي، ويُروَى عنه، بينما تظل مفردات المطر المستلفة للبدوي محتشدةً فيه، لا يمازجها إلا ما يمازج الصحراء من تمام البدرِ، وأنفاس الخيام.
فقد كان في البدء، قد تصبب عشقاً، فهو يُضيء إذا يشتاق، وهو في بعده برّاقُ، وسبّاقٌ إلى سكب الغرامِ على الغمام، وفي توقه تئنُّ ربابته، حروفه البرقُ، والرعدُ لحنه.
يَرْوِي ويُرْوَى عنه
أن الماء يروي عشقه
فيضيء إذ يشتاق
ذاك الفتى البراق
سبّاقٌ إلى سَكْبِ الغَرَامِ عَلَى الغَرَامِ
القَطْرُ فِضّيٌ،
وصَدْرُ الغَيْمِ لُؤلُؤةُ الظَلَامِ
وغَرَامُهُ..
-ذَاكَ الَفتَى البَدَوِيُ-
مُكْتَمِلُ التَمَامِ..
مُعَتَّقٌ
عَذْبٌ
كَمَاءِ الوَرْدِ
مُخْتَلِطٌ بِأَنْفَاسِ الخِيَامِ
وَهْوَ الفَتَى المُشْتَاقُ
تَوّاقٌ
رَبَابَتُهُ تَئِنُ
البَرْقُ وَجْهُ حُرُوفِهِ..
وَالرَعْدُ لَحْنُ
وتسجل نبضات القصيدة مقتضيات أصالة البدوي بمفردات الصحراء والبداوة، ولوازمهما، فالبدوي لا يعود من منتصف الطريق، ولا يرضى بأنصاف الحلول، ولا يخشى المغامرة، فهو كالبدر عند اكتماله، معتّقٌ على عذوبةٍ كمثل ماء الورد المختلط بأنفاس الخيام، مشتاقٌ، وتوّاقٌ، حاضناً ربابته بينما وجه حروفه يبرق، ولحنه رعدٌ يصل إلى عمق الأذن، وشغاف القلب.
والبدوي -على ذلك- لا يتراجع، ويسير حافياً إلى احتمال وجود عين السقيا، وتُطل بداوته وتبدي لعين الظباء ما تخفيه من أسرار الرمال، والبدوي لا يقنع بالمرة الواحدة، حتى وإن جرت عادة عين الظباء على أداء الوتر، وإن كان يُظنُّ فيها الشفع المزدوج الركعة والسجدة غير أن إصرار البدوي، ومغامرته، تجبر على تجاوز سنة الفرادة والنزول على رغبته الجامحة، التي لا يمكن حصارها:
يَطْوِي إلَى عَيْنِ الظِبَاءِ بَدَاوَةً
تُبْدِي الِذي تُخْفِيهِ أسْرَارُ الرِمَالْ
ويَسِيرُ حَافٍ مِنْ صَلافَتِهِ
إلَى عَيْنِ احْتِمَالْ
وَالعَيْنُ لا تَرْوِي البَدَاوَةِ
حِينَ تُسْرِفُ فِي بَدَاوَتِهَا
وَتَشْرَبُ مَرَّتَيْنْ
العينُ
لا عَيْنَانِ تَلْتَقِيَانْ في شَرْعِ التَصَّحُرِ لَيْلَتَيْنْ
العَيْنُ
عَينْ
يَجْريِ عَلَى سُنَنِ الَتَفَرُّدِ كُحْلُهَا
بِالوِتْرِ تَغْسِلُ مَنْ بِهَا
شَفْعَاً يظُنُّ
لَكِنَّما عَيْنُ الظِبَاءِ ِلأَجْلِهِ تَصْفُو
وَتُغْمِضُ مَاءَهَا
عَنْ مَا يُسَنُّ
حرصت الشاعرة على جمع الروايات، والحديث عن البدوي الذي ظلت -حتى الآن- بعيدةً عنه بمقدارٍ يسمح لها بالإدراك قبل الاشتراك، لكنها دخلت بالإيحاء التدريجي إلى مفاصل النص، حيث اقتربت قائلةً: (وهو الفتى) بعد أن كانت تقول في سابق النص (ذاك الفتى البرّاق) و(ذاك الفتى البدوي)، وذاك في اللغة، دالةٌ على البعد النسبي.
وتتماوج سمفونية البدوي والعشق والمطر والجنون، لتكشف لأول مرة عن تكشّف الظبي الأغن، حيث تستمر أنشودة المطر متزامنةً هذه المرة مع تورط العامين عشقاً، في موسمٍ جديدٍ للأمطار:
وَهْوَ الفَتَىَ مُتَوَرِّطُ الْعَامَيْنِ عِشْقَا
كُلَّمَا بَكَتِ السَمَاءُ
وَمَسَّهَا خَوْفُ وظَنَّ
مَسَّ المَسَاءِ كَمَنْ بِهِ مَسُّ
وَأَطْلَقَ عُشْبَهُ لِلرِيْحِ
وَاسْتَسْقَى الظِبَاءَ
الصَبُّ يَفْتِنُهُ البُكَاءُ
مَطَرٌ
ويَرْقُصُ شَوقَهَ
مَطَرٌ
وَيشْتعِلُ الْغِنَاءَ
... سَقْطَ الخِبَاء
غَطَّى الظَلامُ فُلُولَهُ
وتَكَشَّفَ الظَبْيُ الأَغَنُّ
وَتَوَرَّطَ البَدَويُّ
لا يَدْرِي أَيُمْطِرُ.. أَمْ يَضِنُّ
مُتَصَبِّبَاً وَلَهاً
يُخَبِيءُ غَصْنَهُ فِي الْجَمْرِ
يَهْمِي نَخْلُهُ رُطَباً
فَيَحْنُو
وَيَغُوصُ فِي رِيقِ الطَرَاِئدِ
بِالرَحِيِقِ الغَضِ يَغْسِلُ سَهْمَهُ
وَيَرُوحُ يَلْعَقُ أصْبَعَيهِ
طَبْعُ البَدَاوَةِ غَالِبٌ -أبداً- عَلَيْهِ
كَفُ التَصَحُّرِ كُلَّمَا
أَقْصَاهُ مِنْ كَفَّيهِ يَدْنُو
وفي النص مقاربةٌ إلى شيء من قصيدة أسامة تاج السر، بَيْد أن مقطع الشاعرة وصل إلى حد التواصل الكثيف، بينما وقف تاج السر على حدود الانتظار حيث يقول:
إن كان غيمك طور التجلي
فكل العروق عطاش
وأنا في انتظارك..
حين تغني السنابل وجداً أغني
فينفرط الغيم يهمي الرشاش
كن قريباً من القلب ساعة يُرْعِدُ شوقي
ويزهر بالحب وجه القمر
وَمْضَةً كنت في خاطري
كنت برقاً..
فعد..
نلتقي في رذاذ المطر
إنها مقاربة البادية والعشق والمطر، بيد أن الشاعرة ذهبت إلى الخواتيم وهي تفكك المشاهد السابقة، وتختزلها في الفتى الذي أصبح قريباً جداً (وهو الفتي اللا شيء يشبهه) ثم تتخلى عن محاذيرها الطبيعية لتصبح أصيلةً في عمق العشق دون مواربة، بعد أن ألحفت في السؤال تشويقاً، ثم اعترفت بأن البدوي قد أحال التمنع إلى تمتع، نظراً لما يحمله في دواخله من سر البداوة وسحرها.
وَهْوَ الفَتَى الْلاَ شَيءَ يُشْبِهُهُ
هُوَ المَجْنُونُ
مَنْ سَتَكُونُ مَنْ يَهْوَى؟
وَحِيْنَ يَهِيمُ..
كَيْفَ يَكُونُ؟
ذَاكَ الفَتَى المَفْتُونُ
يُخْفِي سِرَّهُ بَيْنِي
وَعَيْنِي حِينَ يَشْرَبُهَا
يُزَلْزِلُ مُزْنَهَا الدَفَّاقَ مُزْنُ
يَحْتَلُّهَا
وَيَصِيدُ رِمْشَ تَمَنُّعِي
وَالْصَيْدُ فَنُ
جَفْنٌ يُغَطِي سِرَّهُ.. غَطَّاهُ جَفْنُ
وَجْهُ البَدَاوَةِ مُمْطِرٌ
وَبَرَيِق ُعَيْنِ الرَمْلِ
لا يَهْواهُ إلاَّ مَنْ بِهِ مسٌّ
وَمَنْ إِنْ أَمْطَرَتْ صَحْراؤُهُ شَجَناً..
يُجَنُّ
وعوداً على البدء فإن الشاعرة أفلحت في إحكام نسيج النص من حيث الموسيقى، واتساق الألفاظ والصور المنبثقة عنها، حيث لم يتوقف المطر طوال رحلة النص بكل ما يحيط به من سوابق البروق والرعد، وما يلحق به من الريح والعشب، وعيون الماء. وسماء البادية بنجومها، وغيومها، وغمامها، وبدر تمامها، وأرضها، بما فيها من نارٍ، وخيامٍ، ورمالٍ، وظباءٍ، وخباءٍ، وغُصْنٍ، ونخيلٍ. والصيد وأدواته، الظباء، وفن الصيد، والجمر، والطرائد، والسهم، أما البدوي الذي يشكل محور النص فهو متراوح في انفعالاته، وانفلاتاته، يُجنُّ، ويَحنُّ، ويطمئن، ويضيء، ويسبق، ويبرق، ويكتمل، ويتعتَّق، ويعذب، ويعزف على ربابته، ويبدي أسرار الرمل حين يطويها، ويسير حافياً من صلافته، ولا يرتوي، ويشرب مرتين، ويتورط عشقاً، ويطلق عشبه للريح، ويستسقي الظباء، ويفتنه البكاء، ويرقص شوقه، (ويَحَارُ بين أن يمطر وأن يَضِن)، ويخبئ غصنه في الجمر، ويهمي رطباً، ويغوص في ريق الطرائد، ويغسل بالرحيق سهمه، ويلعق إصبعيه، وطبع البداوة غالبٌ -أبداً- عليه، وهو المجنون، والمفتون، والصياد. وإن تجاوزنا هذا النسيج الاستثنائي، توقفنا عند مهارة الثنية عند الشاعرة، سواءً بتكرار اللفظ، أو بإطلاق المثنى المفرد، وفي ذلك ميزةٌ نادرةٌ تحتاج إلى براعةٍ خاصةٍ لتجنب الوقوع في براثن الملل، وذلك بتجديد الصورة بالكيفية التي تحافظ على دهشة المفاجأة، وتتجاوز التوقعات، ومن أمثلة ذلك:
غيمٌ على أَعجازِ غيم - يَروي ويُرْوَى عنه - تشرب مرتين - لا عينان تلتقيان - ليلتين - العامين - إصبعيه - كفيه - جفنٌ غطاه جفنٌ.
ختاماً: هذه قصيدةٌ تنتمي بعمقٍ إلى روح الشعر، وسحر وسر البداوة، وتشف -في ذات الوقت- عن مهارةٍ قصوى استطاعت أن توظف مفردات البادية في لغةٍ حضريةٍ تستحضر العشق القديم في ثوبٍ جديد.
محيي الدين الفاتح محيي الدين - الخرطوم - السودان