Culture Magazine Thursday  11/02/2010 G Issue 298
فضاءات
الخميس 27 ,صفر 1431   العدد  298
 
أزمة المثقف وإشكالية المحافظة
سالم محمد العمري

تأتي المطارحات الثقافية في المملكة على وتيرة هادئة وغير عنفوانية، ربما لأن الشأن الثقافي ذو طبيعة هادئة لا يستهدف القناعات والمسلمات المختلفة وبالتالي فهو لا يستفز سكينة وطمأنينة المجتمع المحافظ بصورة مباشرة، تلك السكينة المحاطة بالعديد من الحراسات، بخلاف المجال الفكري الذي يتجلى من خلال صورته السجالية الحدية أو المنفعلة أحيانا، والانفعال والحدية هما أيضا سمتان من سمات المجتمع المحافظ الذي يستجيب للتفاعل المباشر والسريع مع المستجد من خلال ردود الفعل المباشرة، فتتشكل الجبهات البشرية المسكونة بهاجس الشعور بالمسؤولية لتباشر مسؤوليتها الدفاعية مسنودة بعاملين أساسيين أحدهما البعد الأيديولوجي المعرفي، والآخر البعد الشعوري أو الوجداني، حيث يشعر كل فريق أنه الحارس الأول والخط الأمامي في جبهة المواجهة.

يحدث هذا في البيئة المحافظة التي لم يتسع رحمها الفكري والثقافي بعد للتعددية وتقبل الرأي الآخر أو الإيمان بحقه في الاختلاف فلم تزل خطواتها الثقافية غير واثقة، ومتوجسة من كل جديد.

في مثل هذا الظرف المعرفي المقيد بشرط المحافظة المجتمعية لم يمثل المثقفون استثناء عن القاعدة، فهم متسقون مع الجماهير مشاركون لهم في العرَض، فارتفاع درجة الخوف من الآخر والغيرة على الساحة بل والشعور بأن أي تغاض أو غفلة ربما يسحب البساط لصاح الطرف الآخر ويسلم الراية لهم، ومن ثم المصادرة وأحادية النظرة وشخصنة المواقف كلها مظاهر بادية لا تحتاج إلى كثير من الجهد لإدراكها، بل إن ثمة تناقضات ما، يقع فيها المثقف بين الشعارات والقيم المتفق عليها وما يمارسه من إقصاء ونفي للآخر وهو سلوك متنافٍ مع الشرط المعرفي الثقافي، وهو في الوقت نفسه مؤشر حي على تناغم المثقف مع مجتمعه المحافظ وإخفاقه في الاستقلال.

إن المتابع للمشهد الفكري لدينا في المملكة بوصف الميدان محافظا يلحظ ودون عناء أن العديد من المثقفين (وبالذات أولئك الذين أفصحوا عن توجهاتهم الفكرية) يعانون من أزمة ثقة أو ربما أزمات ثقة مما يدفعهم إلى مصادرة (كل) ما لدى الطرف الآخر - سواء أشخاص أو تيارات - وعدم الاعتراف له بمزية، مما أكسب هذا المشهد حالة من التدافع الفكري نتج عنها شعور متزايد بأهمية التحصن ضد ما يطرحه كل فريق، بل ربما زاد الأمر إلى حد أن يتم اتخاذ الموقف من الفكرة بناء على الموقف (المسبق) من قائلها، فالمؤمنون بالفكر الليبرالي أو الحداثي مثلا يقفون موقفا ضديا من (كل) ما يطرحه الإسلاميون فيما يقف الإسلاميون موقفا مماثلا تجاه كل ما يقوله غيرهم، وهي حالة من التقاطع تعكس صورة الواقع الثقافي.

في خضم هذا السجال الفكري اللدود والنشط، تزداد الحاجة لضابط لهذا الإيقاع، وممثل للنموذج المتوازن الذي ينبّه إلى وجود منطقة مشتركات يمكن الإبحار من خلالها في إطار الاستقلالية اللازمة، ولذا يأتي المفكر الدكتور عبدالله الغذامي بوصفه علامة فارقة في هذا الميدان خارجا عن هذا السياق والنسق الفكري (المحتدم أو المتأزم أحيانا الذي يصبغ المجتمع المحافظ)، فيمارس التنوع مستجيبا لمتطلبات الهدف العام.

فهل ثمة ضبابية في مواقف الغذامي الفكرية والثقافية؟! (فهو إمام مسجد وهو في الوقت نفسه زعيم الحداثيين في السعودية)

وعليه فهل لا يزال الغذامي على موقفه من الحداثة، ومن الإسلاميين؟!

أظن أن هذا التساؤل ينبئ عن ارتباك لدى من يطرحه، وهو ارتباك ناتج في تقديري عن عاملين:

الأول: متعلق بتأثر المتسائلين بشروط المحافظة التي تتفهم المواقف الفكرية المجردة بيسر بينما لا ترحب كثيرا في الجمع بين موقفين (خاصة إذا كان ظاهرهما التعارض)؛ لأن هذه البيئة مهمومة بإصدار الأحكام وعلى وجه السرعة، بينما الدخول في التفاصيل لا يمكّن من إصدار الأحكام بسهولة، بل أبعد من ذلك حيث إن المجتمعات المحافظة أو المنغلقة تشترط في سلامة الولاء اتخاذ موقف مضاد من المنافس، يتجلى ذلك على أكثر من صعيد حياتي (فكري, أيديلوجي, ومذهبي وديني ورياضي...إلخ) حيث لا يُفضل الاعتراف بمظاهر تفوق للخصم، وهو موقف مبني على خلفية ثقافية، ويمكن تعميمه على مستوى الأفكار وعلى مستوى المثقفين الذين لم يحتاطوا من الوقوع في هذا المنزلق الثقافي فوقعوا فيه على حين غفلة.

العامل الآخر وهو الأهم متعلق بمنهج الغذامي نفسه، فهو على المستوى الثقافي والفكري يتوفر على ثقة طاغية تباشر القارئ لما يطرحه وهذه الثقة تنتج لدى الغذامي توازنا في الطرح يسمح له بإبراز موقف الخصوم الإيجابية بتجرد ودون خوف أو وجل، فتوجهه الحداثي لم يمنعه على سبيل المثال من الثناء على مدرسة الحديث النبوي، وهو على استعداد لحرق كتبه ومد يده للإسلاميين، وهي مواقف لا تمثل الشاذ في المنهج عنده وإنما تؤكد قاعدة منهجية اختطها الغذامي المتكئ على أرضية صلبة أتاحت له اتخاذ مواقفه بقناعة تجعله مستعدا لاستثمار جميع الفرص المشروعة التي تمهد للوصول للهدف وتحقيق المبدأ، وهو موقف يندر في رأيي أن نجده عند غيره.

إن المتسائلين عن موقف الغذامي هم أحد صنفين: إما أنهم مدفوعون بمواقف لها خلفياتها، وإن كانوا يمثلون النخب أحيانا.

أو أنهم لم يعوا المنهج (الصعب) الذي ارتآه الغذامي، وهذا ما لا أرجو احتماله؛ لأن لهذا الاحتمال - في حال واقعيته - أبعاداً سلبية في مقدمتها أننا لا نزال في المربع الأول فكرا وثقافة.

إن الطرح الفكري الفاعل لابد أن يلتزم بالشروط والضوابط الأساسية التي من أبرزها إتاحة الفرصة كاملة للقارئ لاتخاذ الموقف في جو من الثقة المتبادلة بينه وبين الكاتب أو المفكر، وهو ما يفتقر إليه مناخنا الثقافي والفكري.

فكيف يمكن أن نسهم في تشكل فضاء فكري وثقافي يناسب المرحلة؟ وما العوامل المساعدة لتحقيق ذلك؟ ومن المسؤول عن افتقار الساحة لدينا إلى المثقف المستقل؟

لاشك أنها أسئلة بحجم أزمتنا الثقافية، ولاشك أيضا أن للمثقفين نصيب وافر من جانبهما المعتم.

القصيم Isms11@hotmail.com
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة