حين أحس (مالك بن الريب) بقرب أجله رثى نفسه بقصيدته الشهيرة التي لا أحسب أنها تخفى على من له أدنى معرفةٍ بالشعر العربي، وقد كانت ضمن القصائد التي اختارها (غازي القصيبي) في كتابه (قصائد أعجبتني)، وسماها (القصيدة/الفيلم)، بل عدَّها أعظمَ (كذا) القصائد في شعرنا العربي كله قديمه وحديثه.
وحين يصل ابن الريب في هذه القصيدة/المرثية إلى بيته الذي يقول -حاكياً عن أصحابه-:
يَقُولُونَ: لا تبعُد، وَهُم يدفنوني
وأينَ مَكانُ البُعدِ إلا مَكانيا!
تصل الرؤية إلى منعطفٍ حادٍ يتماهى مع فكرة النص وتصاعُد أبياته، ويدرك الشاعر في هذا (البيت/المشهد) تحديداً مدى (الضدية) الواضحة التي يصفها لنا بخياله المتألق، ويصور لنا خلاله قمة (التناقض) بين (السياق القولي) الذي يُصغي إليه من هؤلاء الأصحاب و(السياق الفعلي) الذي يراه حاضراً أمامه، في مشهدٍ لا يخلو من (السخرية) و(الحزن) في آنٍ واحد، وهذا الإدراك ب(الضدية) وذلك الشعور ب(التناقض) هو الذي جعل (الشطر الثاني/التساؤل الاستنكاري) يتداعى لإتمام النص عبر تعليقٍ (ساخر/حزين) يُمثِّل إحساس (المبدع) بتناقضات الحياة في أوضح مشاهدها.
يتبادر إلى ذهني هذا البيت (العربي/العبقري) حين أُتابعُ بعض المناهج النقدية الحديثة التي تزعم أنها القدوة المثلى للتعامل مع النص الإبداعي، وذلك حين تضع من أبرز (استراتيجياتها) الخروج بحكم نقدي موضوعي على النص بعيداً عن أي مؤثرات خارجية يمكن أن تؤثر في موضوعية هذا الحكم؛ ولذلك أعلنت (البنيوية) -وهي إحدى أشهر هذه المناهج- رسمياً عن (موت المؤلف) -ومن بعدها (التفكيكية) و(التلقي)- وذلك حين كتب Roland Barthes (رولان بارت) مقالته الشهيرة tha death of the author (موت المؤلف) التي دعا فيها بضرورة إخراج المؤلف إخراجاً كلياً من (عملية تحليل النص)، في محاولةٍ (يائسة) منه لعزل النص عن مؤلفه بهدف دراسته دراسةً موضوعية تنطلق من النص ومعطياته، وتُهمل ما عداها من ظروف خارجية؛ ودعوةً إلى فتح المجال ل(نصوصية) النص لكي يدخل إلى آفاق الإنسانية عابراً للزمان والمكان حتى يتسنى له أن يأخذ مداه مع (القارئ) ومع (التاريخ)؛ وهرباً من أن تصبح (البيانات) المرتبطة بالمؤلف هي (جوهر) الدراسة النقدية للأدب، أو (نقطة الارتكاز الاستراتيجية) الموجهة للعمل التحليلي النقدي.
ولستُ أريد في هذا السياق مناقشة (الخلفية/المرجعية) الفكرية لهذه الرؤية، كما أني لستُ في مقام الحكم على مدى جدواها وتقييم فاعليتها، وإنما أود أن أكشفَ عن إمكانية (تطبيق) هذه (النظرية) على (أرض النص)، وقدرة الناقد على اتخاذها (استراتيجيةً) حين يتعامل مع النصوص، وهل هو يستطيع فعلاً أثناء (قراءة) النص الإبداعي (اغتيال) المؤلف قبل الشروع في الممارسة النقدية، أم أن كل ذلك وهمٌ و(احتيال)؟
الحقيقة أنَّ الوصول إلى رؤية واضحة وعادلة لهذه القضية يحتاج إلى اختيار بعض النماذج لمجموعة من الدراسات النصية التي تبنَّت منهجاً يتخذ من (موت المؤلف) (استراتيجيةً) له، وليكن هذا المنهج هو المنهج (البنيوي) بوصفه أول المناهج التي (اغتالت) المؤلف صراحةً و(نعته) رسميا، وليكن ذلك الاختيار لبعض (القراءات) النقدية التي قام بها عدد من النقاد العرب الذين تبنوا المنهج (البنيوي) وقاموا بدراسة مجموعات من النصوص الشعرية والنثرية القديمة والحديثة وفق هذا المنهج في إطاره العام، كل ذلك بغرض تفحص مدى (غياب) المؤلف فيها، وللكشف عن كون (النتائج) التي خرجت بها هذه (الدراسات التطبيقية) نابعة حقاً من دراسة (بنى النص)، أم أنها نتائج مبنية على معرفة هؤلاء النقاد المسبقة بمؤلفي النصوص التي تناولوها وبسيرة حياتهم ودقائقها.
ف(كمال أبو ديب) مثلاً -وهو من أبرز نقادنا المعاصرين الذي تحمسوا للمنهج البنيوي وقاموا بتطبيقه- في كتابه (جدلية الخفاء والتجلي) يتناول نص أبي نواس الذي كان مطلعه:
يا ابنة الشيخ أصبحينا
ما الذي تنتظرينا؟
ويتوقف عند عبارة (يا ابنة الشيخ) مبيناً أن دلالة اللفظة/العلامة: (الشيخ) تُجَسِّد (التراث الأخلاقي/الديني/الشعري/اللغوي)، وعلى الرغم من احتمالية هذه الدلالات إلا أنَّ الناقد تجاهَلَ تماماً دلالةً أكثر احتمالاً هي دلالة (المجرب/المسن) الذي عركته الأيام، وتجاهُلُ الناقد لهذه الدلالة -رغم وضوحها- وحصرها في (لبنة التراث الأخلاقي) قد جاء نتيجةً لرغبته في إخضاع النص (للمعرفة الذهنية) المتحصِّلة مُسبقاً لديه عن (أبي نواس) وثورته على الانضباط وفق المعايير الخلقية والدينية.
وفي نتيجة أخرى ل(كمال أبو ديب) في دراسته لهذه القصيدة يرى أنَّ مجيء (الأطلال) بعد (الخمرة) وإحلالها (مرتبةً هامشية) قد جاء بسبب (رفض الشاعر الحاد العميق للعالم الذي ترتبط به الأطلال ولقداسة تركيبه)، وهذه النتيجة لم تفرضها -في الحقيقة- دراسة القصيدة وتحليلها من خلال منظور (ألسني بنيوي)، وإنما هو إقحامٌ ل(خارج) النص على (داخله)، أو بمعنى آخر إقحامٌ لسيرة حياة الشاعر ومواقفه المعروفة عنه على (النص) ذاته، وهي إلى جانب ذلك نتيجةٌ طالما أشار إليها نقاد عديدون درسوا شعر (أبي نواس) ولم يتمثلوا هذا المنهج الذي اتبعه الناقد.
إنَّ أصحاب هذه المناهج التي تنادي ب(اغتيال المؤلف) -بوصفه عنصراً خارجياً عن النص ينبغي استبعاده تماماً في عملية القراءة والتحليل- هم في الحقيقة واهمون، لأنهم يطلبون المستحيل عينه، ف(المؤلف) وغيره من العناصر الخارجة عن النص لابد أن تتسلل -شئنا أو أبينا، شعرنا بذلك أو لم نشعر- إلى (النص) عند دراسته وتحليله، وإذا كانت هذه الدعوة التي يطلقها هؤلاء (اغتيالاً) عند (التنظير)، فهي في حقيقة الأمر (احتيالٌ) عند (التطبيق).
إنَّ هذا الحضور المستمر لل(مؤلف) الذي أعلنت هذه المناهج (موته) لا يعود في الحقيقة إلى عدم فهم الناقد العربي للمنهج الذي يتبناه، كما أنه لا يعود في الوقت نفسه إلى فشله في تطبيقه حين يتعامل مع النصوص الإبداعية، وإنما يعود -هذا الحضور المستمر- إلى خللٍ في المنهج النقدي نفسه بسبب تبنيه هذه (الاستراتيجية) وتجاهله التام لوجود المؤلف، ومهما حاول الناقد أن (يُميت) (المؤلف) أو يحاول (اغتياله) قبل الشروع في (القراءة النقدية) للنص فلن يتمكن من ذلك، وسيبقى هذا (المؤلف/المنشئ/المبدع) حاضراً في نصه حتما.
على كل حال فإنَّ أيَّ محاولةٍ لإبعاد المؤلف هي في الحقيقة كدعوى (أصحاب ابن الريب) الموغلة في (التناقض)؛ حيث أبدعوا في (التنظير/لا تبعد)، لكنهم أخفقوا في (التطبيق/ يدفنوني)، بيد أن هؤلاء النقاد عكسوا القضية، ف(التنظير) عندهم: (الموت والدفن)، ولسان حالهم في (التطبيق) يقول: (لا تبعد)، و(المفارقة) أنَّ (المؤلف/مالك بن الريب) قد أدرك هذا (التناقض) (الصارخ)، أما نقاد المناهج الحديثة فما زالوا غير مدركين له حتى يومنا هذا!
Omar1401@gmail.com
الرياض