لقد قرّر الرجلُ إبان ازدهار دولته أنّ ما تنتجه أفضلُ امرأةٍ يتأخر صورةً وقيمةً عمّا ينتجه أسوأُ رجل، ولم يكنْ هذا التقريرُ كذباً ولا افتراءً، وإنما كانَ منتجاً طبيعياً لشكلِ المعاملة التي فرضها الرجلُ على المرأة في دولته، وهي معاملة تتأسس على المنع المتنوِّع المتنامي، الذي يتجاوز الواقعيَّ إلى المتخيّل، والمحسوسَ إلى الإحساس، متجلياً في كلِّ ما أنجزته المرأة على امتداد قارات التاريخ؛ كونَ المنجز بنيةً تناظرُ البنى الواقعية، التي تحيط بها، أو تلتفُّ عليها، دينيةً كانت، أو سياسيةً، أو اجتماعيةً... إلخ.
وحتى حين استطاعت المرأة الانتقالَ -ثقافياً- من حالة التهميش إلى حالة لا بأس بها من التفاعل، وجدنا الاتجاهات الفكرية تتسابق إلى تبني هذه النقلة، وإلى تبني المرأة وما أنجزته فيها، وهو سباقٌ يفضي إلى وجهٍ آخرَ من وجوه الإيمان بتبعية المرأة؛ إذ لو لم تكن التبعيةُ حاضرةً في المقولات الذهنية لعديد هذه الاتجاهات المتباينة؛ لرأيتَ الاحتفالَ يتوجه إلى منجز المرأة، مجرّداً من الثنائيات التي من شأنها خلقُ حالة من التبعية، يفرضها القوي على الضعيف، أو السابق على المسبوق، أو الكبير على الصغير.
لقد مرّت المرأة السعودية بحالةِ ممانعةٍ صاخبة على المستوى التعليمي، قادها معنيون بالعلم الشرعي، ومنخرطون إلى الآذان في مستنقع النظرة الاجتماعية -عفا الله عنهم جميعاً-، ولم تكن هذه الحالة مختلفة عن حالات مماثلة، تعرضت لها المرأة الخليجية كما يرصد (النجار) في (... تحولات الحداثة العسيرة)، أو العربية وغير العربية كما يشير التقصي الذي قدمه (الوشمي) في كتابه (فتنة القول بتعليم المرأة السعودية)، ورغم ذلك كلِّه فإنّ هذه الحالة التي أضحت في التاريخ أو تحته، ما زالت تحضر في خطابنا الثقافي المحلي، لا بوصفها باباً لمعالجة الحاضر، ولا ثنية نطلع منها على المستقبل، ولكن بوصفها سلاحاً يستخدمه اتجاه في محاربة آخر، بغية إسقاط رايته، واعتلاء العرش الذي اعتلاه زمناً، ولذلك شُوِّه هذا التاريخُ من قِبَلِ الطرفين، فأضاف الاتجاه المسمّى ليبيرالياً إلى الواقعة ما ليس منها، وحذف الاتجاه المسمى إسلامياً بعضاً من فصولها، وفيما بين الإضافة والحذف، نقرأ نحن أفعالاً نقدِّرها تقديراً، تعود إلى ضمائر لا تحمل طهر الضمائر، تبحث عن نفسها في قضية امرأة بعينها، أو في قضايا المرأة من خلال تمدّدات الزمان والمكان، تتزيا بزعزعة (الحريم)، وهي تتغيا استبداله (بحريم) غيره.
إنّ قراءة الخطاب الثقافي أيا كان اتجاهه ومستواه ودرجة عمقه تنتهي بنا إلى المربع الذي نوهم أنفسنا بتجاوزه، فكما كانت المرأة موضوعاً في الخيال، يشقّق منه الرجال و(النساء المسترجلات) رموزَ الجمال الحسي، انتهت في القرن العشرين لتكون موضوعاً في الفكر، يستنجد به كلُّ اتجاهٍ للإعلان عن نفسه، بصورة لا تختلف عن الصور الغريبة التي نسخر منها مع كلِّ دورة انتخاب سياسي...، في كلتا الصورتين تجيء المرأة مفعولاً، وتغيب فاعلاً، وفي كلتا الصورتين تكونُ المرأة ميداناً لصراعٍ كان، أو مسرحاً لحلمٍ سيكون، غائبة أو مغيّبة عن اللحظة التي هي فيها (الزمن الحاضر)، وإنني لا أشكّ في أنّ الانشغال بالماضي الذي يعادل الموت، والمستقبل الذي يعادل التنبؤَ بالميلاد، عن الحاضر الذي يعادل الحياة، ما هو إلا شكلٌ جديد من أشكال الوأد، يقوم به الخطاب الثقافي على المستوى الذهني نيابة عن صناديد الجاهلية الأولى.
لم تكن المرأة بنداً رئيساً في أيّ خطاب ثقافي معاصر، يدلُّ على ذلكَ انقلابُ الاتجاه الفكري على المرأة -بالصمت أو الكلام- حين تتعارض مطامح المرأة وحقوقها مع مصلحة الاتجاه أو سدنته، ولذلك حين ظهرت على السطح وقائعُ عنفٍ ضدّ المرأة أدّى بطولتها محسوبون على الاتجاه الليبرالي، سكت أئمة هذا الاتجاه، وراح بعضهم يتحدث عن جمال الشمس ساعةَ الغروب، وحين ظهرت وقائع مماثلة نهض بها محسوبون على الاتجاه الإسلامي، تحرّف سادة هذا الاتجاه إلى صرفها، رغم كونها ممنوعةً من الصرف لكثرة العلل.
إذن يمكن القول، إن المرأة قد تجاوزت حالة محاصرة الذات، فوقعت في حالةٍ هي الأخطرُ من وجهة نظري، ألا وهي حالةُ حصار المنجَز، وتتجلى هذه الحالة من خلال التجاوز الثقافي لما تنجزه المرأة إلى توصيف السياقات الخارجية التي تحيط به، أو من خلال الانطلاق منه بوصفه شيئاً إلى نقد الذات التي لم تعطِ لاتجاه معيّن ما يسوِّغ له محاولة التبني، ومما يؤكد هذه الرؤية، أنّنا مع كلِّ إنجاز تقدِّمه المرأة نسجل الآتي:
- أنّ الاحتفالَ بالذات المنجِزة يفوق الاحتفالَ بالمنجَزِ نفسه، والاحتفال هنا يتسع لمن يراقص الذات، ومن يطارحها.
- أنّ الاحتفال بالمنجز -إن كان ثمة احتفال- لا يعدو كونه منطلقاً للخوض في قضايا لا علاقة لها بالمنجز من حيث هو.
- أننا لا نجد إجماعاً من هذين الاتجاهين على الاحتفال بمنجز واحد، وقد لا أكون مبالغاً لو قلت إنّ احتفالَ اتجاه فكري بمنجز يعني ضرورةً ثورة الاتجاه الآخر عليه.
يمكن أن نسجِّل هذه الملحوظات مع كل رواية تصدر لامرأة سعودية، ومع كلِّ كتابٍ تؤلفه امرأة سعودية، ومع كلِّ مشروع علمي تقدمه امرأة سعودية، ومع كلِّ تكريم عالمي يستهدف امرأة سعودية...
حين صدرت (بنات الرياض) احتفل بها اتجاه وثار عليها آخر، وكلا الاتجاهين كان يعبر عن نفسه أكثر من تعبيره عنها، وحين صدرت (بنات من الرياض) و(المرآة المنعكسة) انقلبت الآية، فآمن بهما اتجاه وكفر بهما الآخر، لا يختلف اثنان واعيان في أن الاتجاهين لم ينطلقا في قبول هذه المنجزات أو رفضها من سمات الفنِّ الروائي وخصائصه، ولا من خطابه ورؤيته، بقدر ما كانا ينطلقان من منطلقات مضمرة، تعدّ معادلاً موضوعياً لمنطلقات الراقدين في دفاتر التاريخ، الذين حاصروا المرأة على المستوى الواقعي.
حين كُرِّمت عالمة الفيزياء (ريم الطويرقي) في باريس وحين كرمت عالمة الطب (غادة المطيري) في أمريكا، انصرفت الخطابات الثقافية المحلية -وربما العربية والعالمية أيضاً- إلى (ريم) و(غادة) أكثر من انصرافها إلى ما أنجزتاه في هذين الحقلين المهمّين...، لقد حظيت (الطويرقي) بعشرات المقالات دبّجها كتابٌ إسلاميون، صعّدت من شأن هذا التكريم، ودعت إلى توسيعه، ومنه دخلت عالم الحديث عن (ريم الطويرقي)، وكيف أنها اعتلت منصة الاحتفال الباريسية وهي ترتدي حجابها الكامل، رافضة أن يجلس إلى جانبها رجل أجنبي، ويطنب هذا الخطاب حين يتحدث عن جمال (ريم)، وحسنها، وبهائها، في ذلك الموقف، في المقابل حين برز اسم (غادة المطيري) أمسك الاتجاه الإسلامي أقلامه، وانطلقت أقلام المصنّفين ليبيرالياً، ليتحدثوا عن غادة التي لا ترتدي الحجاب، وغادة التي تتحدث بأريحية مع أساتذتها...، وغادة التي اخترقت حواجز السواد، في إشارة ضمنية إلى الحجاب...، وإن كان ثمة مجال للعجب هنا، فمن عجبٍ أنّ (الطويرقي) قد قدمت لدينها ووطنها بإنجازها العلمي في الفيزياء أكثر مما قدمه الراقصون على آثارها، وأن (المطيري) التي بلغت مبلغاً جميلاً وجليلاً في الطبّ، لم تتعالَ على مجتمعها كما فعل بعض النائمين على أعمدة الصحف، ولم تسخر منه، ولم تسئ إليه، وحين تحدثت إلى (العربية) تحدثت بلهجتها المحلية، وما تردّدت في أن تقرَّ بارتدائها الحجابَ في وطنها، احتراماً -على الأقلّ- للرأي السائد فيه، وهو تصريحٌ يتضمّن قيماً أخلاقية خطيرة، لا يفقهها الذين حاولوا عبثاً تجييرَ منجزها لصالحهم، واتخذوها -وهي ابنة الوطن- سلاحاً جديداً لخوض حربٍ بائسة ضدّ اتجاه لم تعلن غادة نفسها البراءة منه، ولا الثورة عليه، ولم تتحرّف بأيّ شكل من الأشكال للتعريض به.
في كلتا الصورتين، حضرت الذات وغاب المنجز، ومع كلتيهما نستحضر نحن الاسمين، لنمدحَ أو نقدحَ، ثم ننام متنعّمين في جهلنا بما قدمتاه، وغفلتنا عما جادتا به.
إنها حالة حصار جديدة، تحتفي بذاتِ المرأة سلباً وإيجاباً، على حساب المنجز، حتى لو كان أكبر من أحلامنا، وأقدِّر أنّ هذه الحالة المزرية ستفضي بالأجيال القادمة إلى تاريخٍ يخلو من المرأة، يشبه تماماً التاريخَ الذي تسلمناه من أجدادنا!!.
Alrafai16@hotmail.com
بريدة