كثر الحديث في الفترة الأخيرة عن الأحداث الثقافية المهمة التي تعرضت لها الساحة الثقافية، وتنوعت الكتابات ما بين الجادة والموضوعية التي تناقش وتحلل وتطرح وجهات نظر وآراء جديرة بالوقوف عندها وتأملها، وأخرى تجامل وتجمّل ولا تنظر إلى أبعد من مصالحها مع هذه الجهة أو تلك، وما خلف ذلك يدركه كل مطلّع عارف ومحيط بجوانب العمل الثقافي، ولن تحقق تلك الأصوات الزائفة والوجوه المختبئة خلف أقنعة الثقافة إلا مزيداً من التراجع والقعود عن النهوض بالثقافة لتحقيق دورها في خطط التنمية الشاملة، التي يسعى الوطن من خلالها للرقي بالإنسان، وتطوير آليات التقدم في مختلف المجالات.
وما أحوجنا في هذه الفترة الحرجة من حياة الثقافة - التي تمر بما يشبه الغيبوبة الثقافية كما وصفناها في مقال سابق ولا نعلم أن كانت ستستمر أم سنفيق منها قريبًا- إلى الوقوف على ما تحقق من إنجازات في مسيرة العمل الثقافي خلال السنوات الماضية، ومناقشة الصعوبات والمعوقات التي تعترض مسيرة هذا العمل، وتحديد الأولويات للوقوف وجهاً لوجه مع المشكلات والحلول وصولاًإلى عمل ثقافي تشترك في صياغة رؤيته كافة القيادات الثقافية، بغية تأسيس بنية تحتية للعمل الثقافي في مختلف المناطق بشكل عام.
جميعنا يؤمن بأن من يعمل دون أخطاء فهو لم يكن يعمل، كل نجاح يسبقه فشل، ولكن ما لا نرتضيه أن نستمر في أداء عملنا بنفس الأخطاء، بل إننا نكرره كما هو من دون أن نكلف أنفسنا حتى إعادة النظر فيه، أو الاستماع إلى مشورة غيرنا من ذوي الاختصاص والخبرة، لقد مررنا بتجربة ثقافية لها إيجابياتها وسلبياتها، تطورت فيها أمور كثيرة وتحققت أحلام كانت تمر من دون وعد بتحقيقها، إلا أن هذا التطور يجب ألا يحجب عن أعيننا استمرار وجود جملة من النواقص التي ما زالت عالقة بالعمل الثقافي لدينا ولعلّ أهمها:
فقدان رؤية واضحة ومحددة الأهداف لطبيعة أي عمل ثقافي، مما أسهم في استمرار العفوية والارتجالية في تنفيذ كثير من الأنشطة الثقافية، التي وقعت في دائرة التكرار والنقل في مواسم الأندية الأدبية ومناسباتها الثقافية (نفس الموضوعات، نفس الأسماء والوجوه، نفس التنظيم) مما ينمّط الثقافة ويكرّس مركزيتها من خلال لعبة المرسل والمتلقي السلبي فقط، لذا يجب أن نتعلم مما جرى، ونضع النقاط على الحروف من خلال التشاور بشفافية حول مشكلات العمل الثقافي بما يضمن تجاوزها مستقبلاً، والوصول بالأنشطة الثقافية والفعاليات إلى الغاية المنشودة؛ تحقيقاً لطموحات الوزارة في خدمة الثقافة، وحتى تؤتي تلك الخطط أكلها يجب أن تسعى الوزارة إلى إيجاد بيئة تمكن المسؤولين والمهتمين في القطاع الثقافي من القيام بدورهم كاملاً في التنمية الثقافية بما ينسجم مع طموحاتهم وآمالهم المؤجلة، ابتداءً من رفع المخصصات المالية للعمل الثقافي لضمان استمراريته وجودة طرحه، ومروراً ببناء مراكز ثقافية، ودعم المثقفين والمبدعين، وانتهاءً برسم معالم واضحة لتنمية الثقافة وتطويرها حتى تكون ثقافة هادفة، من شأنها أن تطلق القدرات، وتفجّر المواهب، وتحرّك الملكات للإبداع والابتكار، وكل هذا مرهون بإيجاد كوادر متخصصة، وعقول متقدة، وطاقات متحفزة لخدمة الثقافة حبا فيها، لا طمعًا في حوافز ومكافآت، أن أهم خطوة لتنمية الثقافة ومعالجة سلبياتها هو اختيار الوزارة لمن يمثل الثقافة في أرقى معانيها، ليسهم مساهمة فعالة في تطورها فكرًا وأداءً، وعليها أن تلتفت جديًا لتشكيل فريق استشاري مبدع وقادر على التجاوب مع متطلبات العصر ومستجداته، ولكن هل كل مثقف صالح لهذه المهمة؟ لا أظن أن من يقدّم مشورة ويقبض عليها أجرًا أو ينتظر ثمنها يحقق شرط هذه المهمة الصعبة، فالعمل الثقافي أن لم يكن نابعًا من نفس صادقة، وإحساس عميق بالمسؤولية لا يمكن أن يكون مؤثرًا وفاعلاً، فغالبية الأصوات التي يتكسب أصحابها من رأي هنا أو مشورة هناك لا تقدم لنا فكرة صادقة، ولا رأيًا سليمًا، بل إنها قد تضر بالبناء الثقافي الذي يحتاج إلى من يدعمه ويعلي شأنه بصدق موضوعي خالٍ من الرياء والسعي وراء مصلحة شخصية، وما أقصده هنا هو اختيار الشخص المخلص سلوكاً ورأيًا، فهذا ما تحتاجه الإدارة الثقافية الآن، فالعمل الثقافي - كما شبهه أحد الكتاب- مثل بناء الأهرامات ما زالت خالدة لأنها صنعت بروح تطوعية صادقة، وبرغم روعة البناء الذي هو من عجائب الدنيا السبع إلا أن البناءين والعمال لم يتلقوا على عملهم أجرا، وبغض النظر عن صحة أسباب ذلك إلا أننا نود الإشارة إلى أن الإحساس بالولاء والانتماء يدفع بعض الأشخاص إلى التضحية بأرواحهم في سبيل أوطانهم التي أحبوها أو في سبيل من يحبونهم من دون أن ينتظروا مقابل أو يقبضوا أجر إخلاصهم، ونقيس على ذلك جهود كثير من الأدباء والمثقفين الذين وضعوا أوقاتهم وراحتهم وأموالهم في خدمة الثقافة وللثقافة، وبحب وطوعية لمستها بنفسي في إحدى الدول العربية المجاورة أثناء انعقاد مهرجان عربي أدبي، يشارك فيه نقاد وكتاب من مختلف الدول العربية، ولفت نظري مجموعة من الشباب كانوا يتفانون في خدمة المهرجان والضيوف حتى ساعات متأخرة على حساب راحتهم وأسرهم، وكانت الدهشة عندما علمنا أنهم متطوعون لا يعملون في جهاز الثقافة، بل إنك تعجب أكثر إذا علمت أن أحد المسؤولين اقترض من البنك على حسابه الخاص ليغطي بعض العجز نظراً لقلة الميزانية المخصصة للمهرجان وليسهم في إنجاح هذه الفعالية، فمن سيقدّم مثل هذه التضحيات سوى شخص أمن بما يعمل فأحبه حتى أصبح مهمومًا به، وكم كان رائعًا ذلك التلاحم بروح واحدة تقدّم وقتها وجهدها ومالها وفكرها لتحقيق أهداف تخدم الثقافة في مجالات متعددة، تلك ثقافة التطوع التي تبادر للمشاركة طواعية واختيارًا، فالعمل الثقافي جزء من ثقافة الولاء والانتماء، والأعمال التي لا يتلقى عليها المثقف أجراً تكون أكثر صدقًا من الأخرى التي يتكسب منها، فإذا كانت وزارة الثقافة تريد فعلاً صناعة ثقافة مغايرة وتؤسس لمستقبل ينافس الثقافات الأخرى، فعليها اختيار الأشخاص الذين يتمتعون بروح الانتماء والصدق، فأي آراء أو أفكار يطرحونها ستصدر عن وعي حقيقي بالهم الثقافي، ودراية عميقة بالأوضاع الثقافية وإشكالياتها، فلم ينهك جسد ثقافتنا ويعطل خططها ومشاريعها إلا أولئك المتسلقون عبر شعارات زائفة ومأجورة.
جدة