تقدِّم الكاتبة الروائية المصرية سعاد سليمان في روايتها (هبَّات ساخنة) عدة رسائل في النقد الاجتماعي، تقوم بتوظيفها في سياقات مناسبة بحسب تداعيات الأحداث وطبائع الشخصيات التي تدور حولها أو من خلالها أحداث الرواية، وتتكلم الكاتبة في روايتها بضمير الأنا على لسان «سلمى» التي تبدأ قصتها ببلوغها سِن اليأس، ومن خلال ما تعانيه في هذه السِّن تعرض الكاتبة أولى رسائلها، التي تُعَد مواجهة صريحة مع النفس، فقد أصبح شَعرها «هائشًا جافًّا، يرفض محاولات إعادة ليُونتِه، حتى مع استعمال أغلى الشامبوهات وكريمات فَرْد الشَّعر»، وفي هذا السياق تسرد سلمى ملامح زميلتها «شيرين» التي هاجمها اليأس مبكرًا في الخامسة والثلاثين من عمرها، وتصف حالها: «مذهولة مما أرى؛ تجعَّد الوجه المليح، غاصت العيون الزرقاء تحت جفون متهدلة ثقيلة في وقعها، أسنان مخلَّعة.. هذه شيرين الفاتنة صاحبة أشهر مَثَلٍ «مِن كثرة خطَّابها بارَتْ»؟!!»، وتقصد الكاتبة من خلال هذه الرسالة كشف تداعيات مرحلة من مراحل العمر تشمل خصائصها جميع النساء بدرجات متفاوتة؛ فهي مرحلة عمرية لا تفرِّق بين امرأة وأخرى، وتكمن قيمة هذه الرسالة في كونها اعترافًا بما لا تحب عامة النساء الاعتراف به، وفيما يتعلق بشيرين فقد ذكرت الكاتبة أنَّ أعدادًا كثيرة من الخُطَّاب كانوا يطلبونها للزواج، وأحيانًا كان يطلبها خمسةٌ في اليوم الواحد، لكنها كانت دائمة الرفض، إلى أن وصلت إلى تلك الحال، وفي ذلك رسالة من الكاتبة بأن الاغترار يؤدي إلى البوار.
وتمهيدًا لرسالة جديدة تقدمها الكاتبة؛ تذهب سلمى لقضاء بعض مصالح البيت وإصلاح السلسلة الذهبية لوالدتها، وفي الطريق تنتابها حالة إعياء، ويساعدها أحد المارة، فتُفاجأ بأنه حبيبها السابق «آدم»، وخلال جلسة لهما في أحد المقاهي تنتظر منه أن يعبِّر لها عن شوقه بعد غياب سنوات، لكن ذلك لم يحدث منه، مع أنها كانت زوجته يومًا ما، لكنه كان زواحًا سرِّيًّا لا يعلم به أهله؛ حرصًا منه على زوجته وأولاده وخوفًا من أبيه، وفي سياق هذا اللقاء الذي جمع بين آدم وسلمى من غير موعد أو تخطيط؛ توجِّه الكاتبة رسالة جديدة على لسان سلمى التي تقول لحبيبها: «كل ما فيك يا (آدم) مُوجع؛ حبك، غضبك، حنانك المفتقَد، غطرستك.. دائمًا تضحي بي»، جعلت الكاتبة اسم ذلك الرجل «آدم»؛ لتوجِّه من خلاله الكلمات السابقة إلى الرجال بشكل عام.
وفي هذا الصدد أعقبت الكاتبة برسالة أخرى، في سياق الحوار بين سلمى وحبيبها؛ الذي صارحها بقوله «أيضًا أضحي بحبي لك؛ لأجل من هم أهمُّ مني ومنك»، ونلاحظ أن أسلوب الكاتبة في هذا السياق يؤكد رضاها وقناعتها بهذه الكلمات، كأنها توجه رسالة إلى الآباء والأمهات أن يكون اهتمامهم الأكبر بأولادهم؛ فهم أهم من السعي إلى تحقيق أمنية خاصة، وكلامها فيه أيضًا رسالة إلى الطرف الثالث في مثل هذه الحالات؛ أن يدرك أنه لم يَعُد له مكان، والجدير بالذكر هنا أن الكاتبة تعمل على تضمين كلامها كل ما يمكن أن يسَع من رسائل هادفة.
وفي «هبَّة» أخرى من «هبَّات» الكاتبة؛ ترسل رسالة جديدة تكشف فيها شيئًا عن فئةٍ من الأزواج، الذين تصفهم على لسان سلمى بأنهم «لا يعلمون شيئًا عن مصيبة تركِهِم لنسائهم مهمَلات، أو رجل يمنع نفسه عن زوجته خوفًا من استنفاد صحَّته، وآخر يصاحب كل شهر امرأة أصغر منه بعشرين سنة على الأقل، يشترط عليهن السِّرية المطلقة؛ حرصًا على زوجته وبناته..»؛ فهذا الكلام يحمل رسالة موجهة إلى الأزواج، تلفت أنظارهم إلى هذه الأفعال المخزية التي يقع فيها بعضهم، مبيِّنة ضرر هذه الأفعال وآثارها السلبية على المرأة المتضررة.
وفي سياق النقد الاجتماعي تعرض الكاتبة نماذج من العشوائيات، من خلال فتاة فقيرة تُدعى «فُتنة» تعرضت للظلم وتم تعذيبها داخل أحد أقسام الشرطة بغير ذنب، ثم أكسبتها هذه التجربة صلابة في تعاملها مع الناس، حتى أصبحت تتصدى لأبيها وتزجره عن التحرش بالفتيات، بعد أن كانت أمها تخاف عليها وعلى أخَواتها من أبيهن؛ فالكاتبة تبحث في أعماق المجتمع وتعرض نماذج من السُّوقة والدهماء الذين تخلو نفوسهم من أي وازع ديني أو أخلاقي، وهم موجودون في المجتمع ويجب التحذير منهم في إطار السياق المناسب كما في هذه الرواية.
وتمضي الكاتبة في توجيه رسائلها النقدية التي تتعلق جميعها بالجانب الاجتماعي، فتقدِّم من خلال والدة سلمى رسالة جديدة موجهة إلى النساء؛ فقد لاحظت هذه المرأة أن زوجة «أدهم الصغير» تتنافر منه أمام الناس، لذلك نصحته بطلاقها، وذكرت له احترام النساء لأزواجهن في الزمن الماضي قبل جِيله؛ ونلاحظ أن الكاتبة توجه كل رسالة من رسائلها، على لسان الشخصية الأكثر مناسبة لها، ولا شك في أن هذا له دوره المهم في إثبات المصداقية، التي تؤدي إلى القبول والتفاعل من قِبَل المتلقِّي.
ومن الرسائل النقدية التي تعرضها الكاتبة مسألة المجاملات بين المسؤولين، الذين يحتفظون لأنفسهم وأبنائهم بالوظائف التي هي من حق الآخرين؛ فالدكتور «أنور» الزوج الثالث لسلمى، كان مؤهلًا للعمل بجامعة بني سويف، لكن حجبوا عنه حقه ومنحوه لابن رئيس جامعة القاهرة، لولا أن الدكتور أنور ناضل من أجل الحصول على حقه، وأقام دعوى قضائية ضدهم واستطاع أن ينزع حقه نزعًا؛ كما تعرض الكاتبة مسألة خطيرة تتعلق بالدرجات العلمية التي يتم منحها بموجب أطروحة ماجستير أو دكتوراه لم يُعِدَّها الباحث بنفسه بل استعان بعالِمٍ أو باحث أعدَّها له؛ فالدكتور أنور «تزوج تلميذته التي استغلَّته في إنجاز رسالتَيْها العلميتين في الماجستير والدكتوراه، ثم طلبت الطلاق لِفارق السِّن وعادت إلى حبيبها»، وهذا الاستغلال العلمي الذي تحذِّر منه الكاتبة؛ له أيضًا صور أخرى متعددة في أرض الواقع، وهي ظاهرة تزداد انتشارًا يومًا بعد يوم، ومن خلالها يصل بعض الضعفاء إلى أعمال مرموقة لا يستحقونها، داخل الجامعات وغيرها من المؤسسات العلمية والمراكز البحثية العامة والخاصة؛ التي يجب أن تختبر الباحثين اختبارات دقيقة ولا تكتفي بشهادة حصل عليها من خلال أطروحة قد لا يكون له حرف منها؛ وقد تناول هذه المسألة بعض الروائيين في سياقات متعددة؛ مثل الكاتب الراحل إحسان عبدالقدوس في رواية «يا عزيزي كلنا لصوص» وغيرها.
وفي هذه الرواية إسقاطات شخصية للكاتبة، وفيها أسماء شخصيات موجودة في أرض الواقع، حتى إن سلمى التي تتكلم الكاتبة بضمير الأنا على لسانها؛ ذكرت الكاتب المصري الراحل مكاوي سعيد [ت: 2017م]، مشيرة إلى أنه وعدها هي وصديقاتها بالكتابة عنهن، ثم قالت: «مات قبل أن يبدأ روايته عنَّا»، وقد وظَّفت الكاتبة شخصيته في عدة مواضع من الرواية، كما ذكرت أحداث ثورة يناير المصرية وما أعقبها مِن تَبِعات، إضافة إلى أحداث أخرى ذكرتها الكاتبة في سياق الذكريات التي تسردها والدة سلمى؛ مثل قصة المليونير المصري علي فهمي كامل [ت: 1923م]، الذي قتلته زوجته الفرنسية «مارجريت» في أحد الفنادق بلندن، ثم حصلت على البراءة بحجة أنها كانت تدافع عن نفسها.
وقد تناولت الكاتبة كثيرًا من الأحداث والسلوكيات الخاطئة، التي تم توظيفها في سياق النقد الاجتماعي، ممتزجة ببعض الأحداث والشخصيات الحقيقية؛ من أجل إِحكام الحبكة الدرامية من ناحية، ومن ناحية أخرى من أجل التوعية والتحذير.
** **
حسن الحضري - شاعر وكاتب مصري