كان للشعر العربي عبر عصوره الزاهية ومراحله الباهرة أثر عميق في الثقافة الأوروبية، خاصة عند انتقاله إلى بلاد الأندلس، التي أصبحت مركزًا للحضارة والفنون. من هناك، انتقل هذا الإبداع الشعري إلى أوروبا، وتحديدًا إلى ما يعرف الآن بدولة إسبانيا. ظهرت في الأندلس نواتج شعرية عربية رقيقة ومبهرة تحاكي الطبيعة الغنّاء، والحدائق الخضراء، والنفوس الصافية، والمواهب الفذّة. ومن هذه النواتج ظهرت الموشحات والأزجال، التي ابتدأها الشاعر العربي مقدم بن معافى القبري الضرير (847-912 م).
نمت هذه الفنون الشعرية وازدهرت في الأندلس، حتى بلغت أوجها مع بدايات القرن الثاني عشر الميلادي، وامتدت تأثيراتها إلى جنوب فرنسا. هناك، ظهرت حركة شعرية جديدة عُرفت بـ»شعر التروبادور»، التي قادها الشاعر غيوم التاسع، الذي يُعد أول من نظم الشعر الغنائي المقفى بلغة الأوكيتانية (Langue d»Oc).
يرى بعض الباحثين أن كلمة «تروبادور» مركبة وتعني «دور الطرب»، بينما يرى آخرون أنها مشتقة من الفعل «تروبار»، بمعنى «وجد» أو «أبدع العبارات الجميلة». وبغض النظر عن أصل التسمية، أصبح التروبادور ظاهرة شعرية بارزة في أوروبا، وكانت فئة «الجونغلير» (المغنون الجوالون) من أبرز من تبنوا هذا الفن. تأثر هؤلاء بالأندلسيين في جانبين: الأول في النظم الشعري، والثاني في التنقل والترحال، وهي سمات عربية أصيلة تعود إلى زمن أسواق الشعر في العصر الجاهلي.
ترك غيوم التاسع حوالي 11 قصيدة، جمع فيها بين النمط العمودي والموشّح. أما آخر شعراء التروبادور المعروفين فهو غيير ريكيه، الذي عاش حتى عام 1292 م. وعلى الرغم من تراجع هذا الفن بعد ذلك، إلا أنه استمر بفضل مجددين ومداحين عملوا على نقله جغرافيًا من الجنوب نحو الشمال.
هناك أدلة كثيرة تشير إلى الأصول العربية لشعر التروبادور. فقد أبدع هؤلاء الشعراء في الغزل ووصف الطبيعة والزهور بأسلوب قريب من الشعر العربي الأندلسي. ومن أشهر هذه الأدلة كتاب طوق الحمامة لابن حزم الأندلسي، الذي تناول موضوع الحب والغزل بأسلوب فريد، بالإضافة إلى تأثير الموشحات التي أبدعها ابن زيدون والمعتمد بن عباد.
يشير المؤرخ «بريفو» إلى أن معاني وانطباعات شعر ابن زيدون والمعتمد بن عباد واضحة في شعر التروبادور. أما المستشرق «آسين بلاثيوس»، فقد أكد دور مقدم بن معافى القبري في ابتكار الموشحات. وذهب الباحث «بيدال» إلى أن الغزل البروفنسالي استلهم الكثير من الشعر الأندلسي، وهو ما يظهر جليًا في دراسات «خوليان ريبيرا» حول ديوان ابن قزمان.
كما يرى الكاتب العراقي عبد الواحد لؤلؤة، في كتابه دور العرب في تطوير الشعر الأوروبي، أن شعر التروبادور نسخة مبتكرة من الموشحات والأزجال الأندلسية، مشيرًا إلى أن ما يقارب 350 شاعرًا من التروبادور أنتجوا حوالي 2542 قصيدة. ولا يمكن إغفال دور زرياب، الشخصية البغدادية الشهيرة، الذي نقل الطرب وذوقيات المآدب من بغداد إلى الأندلس وأوروبا، وأسهم في تأسيس مدرسة فنية ألهمت التروبادور.
من النماذج الجميلة لشعر التروبادور:
يقول الشاعر ماركبرو:
«أيها الحب النبيل، يا نبع الخير جميعًا،
يامن أضأت العالم كله،
رحماك من ذياك العذاب، احمني.»
ويقول برنارد دوفنتادون:
«أيتها السيدة الطيبة،
أنا لا أسألك سوى أن تتخذيني خادمًا،
سيخدمك كما يخدم سيدًا نبيلاً.»
** **
نزال السعيد - حائل