صفحة أدبية تعنى بنشر التجارب الأدبية الواعدة
شعر
أطواق حب
ما بالُ قلْبِي كواهُ البيـنُ لمْ يُطِــقِ
فيسكبُ الحرفَ مَهروقًا من الحُرَقِ
كُلٌّ يغنِّي علــى ليــلاهُ مُتَّشِحًا
لحـنَ الغـرامِ بليلٍ حالمٍ ألِـقِ
يرنو إلى الحسنِ في أعطافهِ شغفٌ
يشكــو سهاماً من الأهدابِ والحَدَقِ
فلا التوقّدُ في ذا الوجـدِ منطفئٌ
ولا خريدتهُ تغفـو مــن الأرَقِ
وفـي فؤادِي أهازيجٌ وتمتمـــةٌ
بدتْ برسمٍ وتشطيبٍ على الورقِ
أهزُّ جذعـاً من الأوتـارِ أكتبُـهـا
فيسقطُ الجرسُ من ديباجـةِ العَذِقِ
يلملمُ العشـقُ ذراتِــي فينثـُرُهـا
في لُجةِ الشعرِ لا يخشى من الغرقِ
والشـوقُ يقذِفُني حينـاً ويجذبُني
إلى رؤاهُ التي تختالُ في أفقِـــي
أُدوزِنُ الباقـةَ الحمـراءَ أنظِمُهـا
أطواقَ حُبٍّ على قيثــــارةِ الشَّفَقِ
وبُـــرْدةُ الطُّهرِ تعلــو حرفَ قافيتِي
محكومةَ الغـزْلِ والإيقاعُ في نَسَقِ
غيومُ شعـرِي بها: حُبِّي، وأمنيتي
دمعِــي، سروري، وتيّارٌ من القَلَــقِ
ياغيمــتِي دثِّــريني من فضا كَلِمي
وحصِّنــيني بربِّ النَّـــاسِ والفَـلَقِ
** **
- منى البدراني
*** ___ *** ___ *** ___ ***
قصة قصيرة
لهيب
للشِّتاء نكهةٌ خاصَّة مع القهوة، ورائحة العُود، وذاك المِعطَف، وكِذْبَة نوفمبر:
-(أنا مُتزوِّجٌ عليكِ من ستَّة أشهر!).
-كيف؟ لا بُدَّ أنّكَ تمزح؟.
-بالفعل أنا مُتزوِّج منذ ستَّة أشهُر، يقولها كأنَّه ينقلُ خبرًا سمعه في أخبار قناة العربيَّة.
بكلِّ بُرود دون حسابٍ لأيَّة مشاعر لتلك الطيَّبة، التي صدَّقته، وأحبَّته ستَّة عشر عامًا.
-أنتَ لولاي لما أنت رجلًا!
رد هو منكسًا رأسه:
-أعرف!
أيُّ جرأة تمتلك، وأيُّ قلبٍ هذا الذي بين ضلوعك ! أيُّ ربٍّ تُؤمِنُ به!
أيُّ كتاب تقرأهُ كلَّ صباح. أيُّ آياتٍ تُردِّد.
خيبة آمال.. تحطيم أحلام.. خديعة بشعة
أنتَ لستَ ببشَرٍ.. أنا لا أعرفُكَ.. لا أريدُ أن أعرف رجلًا باعني عند أوَّل اِبْتسامة لامرأةٍ أخرى! أنت لم تُحِب، ولا تعرف معنى أن تُحِب!
حتَّى الكلب يُوَفِّي.. أخجَلُ أن أقولَ أنَّني أُفضِّلُ نُباح الكلب على صوتكَ الذي أسمعُه الآن.
أقفلتِ البابَ، ومضت حيث لا نهاية!.
** **
- سعاد عسيري
*** ___ *** ___ *** ___ ***
قصة قصيرة
الغبار العراقي
(سبورة الحب)
كنا معتادين في بلدتنا لسنواتٍ عديدة على مجيء غبارٍ موسمي خفيف و ناعم، يأتي في فصل الشتاء أو في فصل الربيع كضيف مهذب ويرحل سريعاً دون أن يخلف أي أذى أو ضرر، ولم نكن مهتمين بالمصدر الذي يأتي منه الغبار أو الجهة التي يهبّ منها، ولكن عندما هجم علينا الغبار الكثيف الدسم في غزوة شرسة أنزلت بصحة صدورنا مرض الربو، وألحقت بمحاصيل تمرنا الخراب، وصار علفاً للحيوانات، جزعنا وبرمنا وصرنا نقول إنه غضب مرسل علينا من الله بسبب معاصينا العلنية ومناكرنا الخفية، كان غباراً حاجباً للرؤية، أوقف الأعمال وشلّ حركة السيارات على الطرق وأفسد مزاج البحر وعطل غزل الأشجار وضيّع هدوء الدواب وسكينتها وعبث بأمزجة العشاق وزحف إلى كل شيء ووصل حتى المصافط تحت الثياب في أجساد الرجال والنساء على حد سواء..
ولما بالكاد رأى الرجل السبعيني “أكبر” من خلال زجاج النافذة في مجلسه وجه السماء متغيراً وقد تحول إلى الصفرة القاتمة المخيفة قال سائلاً من حوله في المجلس:
- من وين جانا هذا الغبار الأقشر؟
أجابه الشاب المؤمن “ولي” وهو قائم ينفض سجادته مما نالها من غبار بعد أن فرغ من صلاة الخوف:
- هذا غبار غريب جديد يأتينا لأول مرة، وقد سمعت في أخبار الراديو أمس تحذيراً يقول: إنها عاصفة ترابية قادمة من العراق.
- العراق من عمرها ديرة دم وشر وما كفاها، والآن صارت لنا ديرة ولّادة غبار.
انفضّ مجلس “أكبر” بعد زوال العاصفة، وعاد كل من فيه إلى بيته ليصلح ما أفسد الغبار وينام، وذهبتُ إلى بيتي وقد غَدَتْ سيارتي السوداء بما علق على جسمها الطويل من الغبار رمادية اللون، وبدا لعينيّ أنه غبار عنيد التصق بسيارتي وكأنه طلاء ثان لها، دخلتُ بيتي واستقبلتني زوجتي عند الباب بالكمامة التنفسية على وجهها وبخاخ الماء في يدها وأولادي مثلها، وانخرطوا جميعهم في بخّ الماء في فراغات البيت وخاصة غرف النوم والصالة والمطبخ كي يهبط الغبار على الأرض، وكي نستطيع أن ننام في جو صحي نظيف، وقد نمت أخيرًا بعد معاناة مع الكحة الناشئة والانسداد الذي نال فتحة أنفي اليمنى، فيما ظلّ أولادي يعيشون في أسرّتهم فرحةَ تعليق الدراسة في الغد في جميع مدارس المحافظة، ولم أُظهر لهم فرحتي بالتعليق، لكوني أعمل معلماً أريد أن أغرس في أنفسهم الجدّية والشعور بالمسؤولية، وحبّ الذهاب للمدرسة لأجل التعلم والتميز، ولكني كتمتُ الفرحة بالتعليق في داخلي، واكتفيت بما أظهرتُه من البهجة في مجلس أكبر، ونحن نقرأ الإعلان التلفزيوني العاجل المكتوب بخط كبير باللون الأحمر في الشريط الإخباري أسفل الشاشة.
لم يكن نومي عميقاً متصلاً، جاء متقطعاً وكافياً لاستقبال نهار جديد، وقد استيقظتُ ضحى، وقررت الذهاب مباشرة للسوق لأموّن ثلاجة المنزل بما ينقصها من اللحوم والفواكه والخضار، خرجتُ من المنزل وكل سيارات الجيران الواقفة التي أمر بها تعلوها طبقة الغبار، وصلتُ سيارتي وانتصبت واقفاً أمام باب السائق لأعالج المفتاح في القفل فشدت نظري العبارة المكتوبة بخط أنثوي جميل معوج على زجاج نافذة السائق (أحبك)، لقد أزاحتْ الإصبعُ التي كُتبت بها العبارة الغبارَ من مكان الحروف الأربعة وحملته معها، خفق قلبي خفقة واحدة، ووددت لو أن إصبعها كائن الآن في يدي، ومسحت بالمنديل عنه ما مسّه من غبار، تلفّتُ عن يميني وعن يساري ولم أبصر أحداً يرتدي عباءة سوداء، بدتْ الكتابة طرية كخبزة بيضاء شهية غادرت التنور لتوها، ابتسمتُ طويلاً وأنا أقود سيارتي، وفتحت باب الأسئلة على أقصاه، يا ترى من تكون هذه الفتاة التي أعلنت عليّ الحب في صباح لم يتخلص بعد من غبار علق في وجهه؟ هل يمكن أن تكون “نورة” حبي الأول قد شعرتْ بالحنين نحوي ومرّتْ من عند بيتي لعلها تراني ولما لم ترني، كتبت هذه العبارة كإشارة لمرورها أعرفها بها؟ يا ترى هل هي أنثى جديدة باذخة ستظهر في حياتي عما قريب؟
وصلتُ السوق وعندما ترجلتُ من سيارتي أرجعت البصر إلى العبارة فامتلأت نفسي حبوراً وحماسة، أدبرتُ عنها ودخلت السوق، وقررت أن أمحو العبارة عندما أعود للمنزل كيلا تراها زوجتي الغيّارة وتشتعل نار الشك في داخلها الطيب، اشتريت لحم ضأن فاخر وسمكا طازجا وانتقيت الفاكهة والخضراوات بيديّ انتقاءً حبةً حبة، وكنت أشعر بالسعادة وأنا أنقد البائعين الأثمان المرتفعة ولم امتعض من الأسعار أمامهم، أو أسبّهم أو أشتمهم أو ألعنهم بسبب الأسعار في غيابهم عني، وقررت ألّا أذهب بسيارتي للمغسلة، ولتبقَ بجلدها المتسخ بالغبار سبورةً للحب، تكتب عليها حبيبتي أعذب الكلمات.
مرّ يوم العطلة على أغلب الناس وهم يغسلون وينظفون وساخطون ومتذمرون من الغبار العراقي، فيما أنا قد خلوت مع نفسي في سريري في آخر النهار وبتُّ أحلم وأنا يقظان بأن العاصفة الغبارية التي هبت علينا البارحة قد جلبت لي معها فتاة بغدادية شاعرة ستذيب قلبي بالأبوذيات التي تقولها هياماً فيّ، وأنها ستظهر لي عاجلاً أو آجلاً ونمتُ استعداداً لغدٍ دراسي طويل.
عندما صحوتُ كان همّي الأول عند التوجه إلى سيارتي مع أولادي لإيصالهم لمدارسهم النظر في زجاج نافذة السائق، وقد توترت لما رأيتها خالية من أي كتابة خطتها حبيبتي “نورة” أو أي بيت شعر خطته أنامل حبيبتي الجديدة الفتاة البغدادية الجميلة الشاعرة، وصلتُ مدرستي منطفئاً، ولكن في الفسحة المدرسية لما اجتمعت مع زملائي المدرسين زايلني الانطفاء وخفق قلبي خفقة ثانية عندما سألني الأستاذ “مهند” هذا السؤال:
- من هي التي رسمت لك قلب الحب النازف؟
- أي قلب؟ لم أفهم ما تقصد!
- اعترف، لا تعمل نفسك ما تدري، لا تخف، أنا لست حسوداً
- والله ما أدري.
- القلب المرسوم على زجاج سيارتك الخلفي، لقد رأيته مرسوماً رسماً جميلاً على سيارتك وهي في المواقف عند دخولي للمدرسة.
ولو أن الأستاذ “مهند” في جواري وقتذاك لسمع خفقة قلبي، ولكنه اكتفى بما قرأه في عيني وانكب على مواصلة التصحيح في دفاتر تلاميذه.
بعد حديث الأستاذ “مهند” صرت كمن يريد حمل عصا ويضرب بها الوقت أو يهشّ عليه كأنه غنم ليرحل، وأخيراً مشى الوقت بطيئاً كرجل عجوز، وعند مغادرتي المدرسة وقفت في حضرة رسمها متأملا وكأنني أتعبد وقلبي يدق، لقد رسمتْ قلبَ حبٍ نازف مخترَقٍ بسهم يسكنه الريش، ونقط الدم تقطر على خط مستقيم ثلاث نقط، والرسمة جميلة، وقد شغلتْ مساحة الزجاج الخلفي لسيارتي كلها، وقد كتبت الحرف الأول من اسمي بالإنجليزية في النصف الأول من القلب A”” والحرف الأول من اسمها بالإنجليزية K””، لقد بات الأمر جدياً، ولأجل ذلك أخرجت هاتفي الذكي من جيبي والتقطت صوراً عديدة للقلب النازف، فمحوته وعدت للمنزل برفقة أولادي وكأن شيئا لم يكن.
عند اجتماعنا للغداء بدأتُ أمهّد لزوجتي ولأولادي قراري بتركيب كاميرا مراقبة منزلية تكون مربوطة بهاتفي الذكي وحدي، وصرتُ أكذب وأقول بأن السرقات قد كثرت في الحي، ومن الضروري أن نحذر ونحترس ونحتاط، وفي اللحظات التي أضع فيها الطعام في فمي كنت أسأل نفسي: يا ترى هل اسمها “خلود” أو “خولة” أو “خديجة”؟ وعند ذاك نطقت ابنتي “خيال” ذات العشر سنوات وقالت: أنا التي كتبتُ لك يا بابا على الزجاج (أحبك)، وأنا التي رسمت لك قلب الحب، فتناثر الطعام من فمي على السفرة، وعلت ضحكات زوجتي في المكان.
** **
- ناصر سالم الجاسم
*** ___ *** ___ *** ___ ***
شعر
خصال
أَقَلَّ الوُدُّ أَمْ كَلَّتْ رَكَائِبُهُ
أَمِ الإِنْسَانُ قَدْ تَخْفَى مَآرِبُهُ
أَيَنسَانَا وَقَد طَالَتْ مَوَدَّتُنَا
وَيُطْوَى العَهْدُ بَلْ تُطْوَى رَغَائِبُهُ
إِذَا مَا الوَقْتُ بِالتَّرْحَالِ سَاعَدَنَا
رَحَلْنَا نَحْوَ مَنْ تَسْمُو مَنَاقِبُهُ
نَحُثُّ السَّيْرَ لَا نَلْوِي عَلَى أَحَدٍ
وَهَذَا الَّليْلُ تَهْدِينَا كَوَاكِبُهُ
إِلى قَرْمٍ مِنَ الأَخْيَارِ نَعْرِفُهُ
بِطِيبِ الفِعْلِ كَمْ تَعْلُو مَكَاسِبُهُ
يُلَاقِينَا بِوَجْهِ السَّعْدِ أَلْبَسَهُ
ضِيَاءُ الشَّمْسِ نُوْرًا أَوْ يُقَارِبُهُ
وَذَاكَ البِشْرُ فِي عَيْنَيْهِ يَحْسَبُنَا
لَهُ حَظٌ وَفِيرٌ فَهوَ كَاسِبُهُ
رَحِيبُ الصَّدْرِ لا تَخْفَى بَشَاشَتُهُ
إِذَا مَا البَعْضُ قَدْ ضَاقَتْ مَذَاهِبُهُ
يَرَى الإِحْسَانَ مِمَّا حَازَ مَكْرُمَةً
وَيُعْطِي المَالَ لِلْمُحْتَاجِ وَاهِبُهُ
لَهُ فِي النَّاسِ أَفْضَالٌ فَلَا عُدِمَتْ
وَإِنْعَامٌ إِذَا مَا جَاءَ طَالِبُهُ
لِهَذَا أَوْ لِأَمْثَالٍ لَهُ نَسْرِي
وَخَيْرُ النَّاسِ مَن لَانَتْ جَوَانِبُهُ
مَتَى تَلْقَى صَدُوقًا فِي مَوَدَّتِهِ
فَبَعْضُ النَّاسِ أَعْيَا مَن يُصَاحِبُهُ
وَلِلإِنْسَانِ أَحْوَالٌ يُكَابِدُهَا
فَمِنْ حَالٍ إِلى حَالٍ تَقَلُّبُهُ
وَخَيْرُ المَالِ مَاعَمَّتْ مَنَافِعُهُ
كَمَاءِ المُزْنِ إذْ هَلَّتْ سَحَائِبُهُ
وَشَرُّ المَالِ مَاالإِمْسَاكُ مَانِعُهُ
فَلَا نَفْعٌ وَيَفْنَى بَعْدُ صَاحِبُهُ
** **
- عبدالله بن محمد بن مسعد
*** ___ *** ___ *** ___ ***
شعر
قصيدة أسارير
هذا اليوم الوحيد
الذي جاء
مرتديا لون الضباب..
ترك دلالا
ينذر القلب
بصلاة المساء
ترك حالا
يهدج الأسارير
ويتأجج في المدى..
إذ أراني
انحنيت
على وقع الأغاني
وتمايلت..
أراني
في غواية أججت القصيد..
اتبعت هواي
وكتبت قافية
ذابت في بحري المضطرب
ومضيت لأضيع..
وتذكرت
أني لست عاشقة
فربتُ على كتفِ
الظمأ
هذا اليوم الوحيد
الذي
جمع المساء في قلمي
وكتب بارتياب..
هل يُستفَزُّ الحبُّ..،
كي يذهب للبداية..؟
أو يُحذَرُ ما يكون
ويُبصَرُ في الصحو
في الكفِّ حيرة
لو ذهب الضباب من يرث القصيدة..؟
** **
- جوهرة بن يوسف
*** ___ *** ___ *** ___ ***
قصة قصيرة
قالَ لها وهي صامتة..
أخذَ يستحثُّها على الحديث، لم تُجبْ ونطقتْ وجْنَتاها الورديتان من الخجل، همتْ دمعتان رقراقتان كادتا أن تحرقا الصمت، في الطريقِ الطويلِ الذي جمعَهما بقيتْ في حالِ الصمتِ وهو يقطفُ من فمِه مفرداتِ الغزل، ظلَّ ينظرُ إلى أزهارِ الطبيعةِ على جانبيِ الطريقِ ويستلهمُ منها كي تستفيقَ رفيقتِه من حالةِ الصمت، توقفَ عند نبتةٍ متوسطةِ الارتفاعِ أزهارُها حمراءُ تحاكي وجنتيْها، قطفَ منها وردتين وناولَها فانفجرتْ ضاحكةً قسرًا، تنفَّسَ الصعداءَ وكأنَّ جبلًا يشبهُ الجبلَ القريبَ قد انزاحَ من على صدره، سألتْه! إلى أين نحن ذاهبان؟ أراد لها أن تضحكَ أكثرَ ليرى ثغرَها الباسمَ الذي غابَ عن الابتسام، نظرَ إلى الجبلِ المُخضرِّ حولهما، ذكَّرَها بالعصفورِ الذي مرَّا بجواره في الرحلة، قالت: العصفور الحزين!! قال لها: لم يكن حزينًا؛ بل كان في أشدِّ الفرح، بصرُكِ هو الذي شاهدَه حزينًا، أرادتْ أن تعودَ لحالةِ الصمتِ، أخذَ بيدِها ومشى بها وجلسا تحت ظلِّ شجرةٍ مُعمِّرة، سألَها عن عُمْرِ الشجرة، تنهدتْ وقالت:يبدو أنَّ أُمَمًا قد تعاقبتْ عليها وهي على هذا الارتفاع، ليتَ لنا عُمْرًا يشبهُ عمرَها، ليْتَنا نُعمِّرُ حتى نكونَ أوراقًا رائعةً يتضوَّعُ شذاها في كلِّ مكان، عانقَها وضمَّها ليزيحَ عنها الحُزنَ والهمَّ الذي أصابَها، أرادَ أن يغادرَ المكان، أصرَّتْ على البقاء، قالت له : الجوُّ في السماءِ اليومَ رائع؛ هزَّ رأسَه ونظرَ إلى الأرضِ وهو يقول : وجوُّ الأرضِ يشبهُ روعةَ السماء، نحن بين روعتيِ الأرضِ والسماء، سألها عن سرِّ الصمتِ فلم تجب، نظرتْ إلى عصفورٍ بريء يهبطُ إلى الأرضِ دون ضجيج، قالت له: أريدُ أن أكونَ عصفورةً مثل هذا الأبيضِ البريء، هنا عرفَ سرَّ الصمت!
** **
- محمد الرياني
*** ___ *** ___ *** ___ ***
شعر
صرخةٌ من وادي النار
دهْرًا يُجيبُ ولم تُدرِكْهُ أسئلتُهْ
ألقى على البحرِ شعرًا فانتَشَتْ رِئَتُهْ
تَأَلَّهَتْ فيهِ أَزْمانٌ وأَمْكِنَةٌ
وغَادَرَتْ في قِطارِ الرّيحِ تَذْكِرَتُهْ
كمِثلِ سيزيفَ يمحُو حُزنَ صَخْرتِهِ
إذْ أَعْشَبَتْ بِمياهِ الصّبرِ أرصِفَتُهْ
دهْرًا يُفَتِّشُ في إنسانِ دَمعَتِهِ
عَنِ الحياةِ التي غنت لها شَفَتُهْ
مازال يسلك درب الحب، خطوتهُ
رؤىً ترتبها للبوح أجنحتُهْ
يبني منَ الآهِ مأوى المُتعبينَ فما
كلَّتْ يداهُ ، ولا عرّته أبنيتُهْ
يسقي عِطاشَ الأماني منْ قصائدِهِ
ولَمْ تَزَلْ تُسكِرُ الأنخابَ جُمجُمَتُهْ
في روحه ألقٌ من وحي سكرته
وملؤ عينيه ما ترجوه أشرعتُهْ
** **
- إبراهيم حلُّوش