حامد أحمد الشريف
عندما ادَّعى إحسان عبدالقدوس بأنّه لم يكتب القصّة القصيرة، وإنّما كتبَ تفريعًا أدبيًّا خاصًّا به أسماه «القصّة الصَّحفيّة»، لم يكنْ دقيقًا في حديثِه، أو أنَّنا لم نفهم قوله جيّدًا؛ فقد أرادَ إفهامنا أنّه لم يستطع التخلُّص من صحفِيَّته في بعض كتاباته الأدبيَّة، كما لم يستطع التخلُّص من أدبيَّته في بعض كتاباته الصُّحُفيّة. لذا، فإنَّه لا يأمن على قلمه من فتنة الخبريّة والتقريريّة وظُهور بَصْمته الصَّحفيَّة في قصصه، والعكس صحيح؛ فهو يصوغ الخبر وكأنَّه قطعة أدبيّة باذخة الجمال، مفعمة بالمشاعر والصُّوَر البلاغيّة، ولم يستطع التخلُّص من هذا الجنوح الجمالي والأدبي المُتَعَمَّد. فثمَّة شواهد تجعلني أنحاز إلى فكرة أنّه اختار، بمحض إرادته، عدم إرهاق قلمه بأيّة قيود، بعيدًا عن كتابة الرواية التي لم تسلم، هي أيضًا، من فكره وفلسفته الحياتيّة العميقة التي يذهب بعضهم إلى اعتبارها مُثاقفة مرفوضة في العمل السرديّ. والواقع أنَّ كلّ تجاوزاته كانت موظَّفة بطريقة جيّدة، وأتت في سياق الصراع الدرامي، أو على لسان أبطال العمل، من خلال المشاهدِ المسرودة المنطقيّة والمقنَّعة، من دون أن يؤثِّر ذلك على تماسكها وترابطها، ووحدة موضوعها، وحضور شخصيّاتها بكامل تفاصيلهم الشعوريَّة والعقليَّة، وصراعاتهم الحياتيّة، بحيثُ لا يمكننا أن نرفضها.
وبالعودة للقصّة القصيرة، فإنَّ قدرات إحسان السرديّة المترعة بالجمال والدقّة والإبداع، تحتضن بعض نصوصه، وتُلبسها المعْطف القصصيَّ، وتُظهرها بأبهى حلَة. وهو ما يمكن رؤيته في عدد كبير من قصصه التي سردها من خلال كتابه «صانعُ الحبّ»، كقصّة «خريستو»، وقصّة «فتاة»، وقصّة «الجيل الجديد»، وقصّة «الفيلسوف»... ويمكننا الوقوف على تجربتِه القَصَصيّة الحقيقيّة من خلال قصّة «ستّة رجال وفتاة» الإبداعيّة التي وردت في الكتاب نفسه، واستوفت كامل احتياجات القصّة القصيرة ومقوّماتها الإبداعيّة، ولم يكن فيها أيّ كَسر للقيود. وبإمكان من يرفض الخروج على قيود القصّة القصيرةِ التأكّد من خلال هذه القصّة أنّ خروج الكاتب هذا كان خيارًا إبداعيًّا وليس ضعفًا أسلوبيًّا أو بِنيويًّا.
وحتّى لا نُتّهم بالمحاباة والمغالاة، فإنّنا سنقف أوّلًا عند ما يمكن أن يعتبره بعضهم امتدادًا لاستهانات إحسان بالقصّة القصيرة، وعدم اعترافه باشتراطاتها، والذي يظهر في المقدّمة المنفصلة التي نطالعها في بداية القصّة أسفل العنوان، حيث يورد جُملًا إخباريّة لم تكن السرديّة بحاجتها؛ ربّما أراد بذلك وضع الحكاية في قالب واقعيّ، ومنْحَها عن عمد قيمة فضائحيَّة لم تكن ضروريّة، والأرجح - برأيي - أنّه أراد بذلك، الهروب من تأويلاتها التي قد تُدخله في مواجهات مع الكبار لم يكن يريدها في ذلك التوقيت، واختار أن تفهمها الأجيال اللّاحقة. وكلّ ذلك كان بهدف خلق هذا الجدل حول كتاباته، بعد إخراجها من إطار القصّة؛ فالقصّة لا علاقة لها بهذه المقدّمة مطلقًا، إذا ما نظرنا إليها من زاوية كتابتها وبدايتها الفعليّة، ما يعني أنَّها تقع خارج النصّ المسرود، ولا يمكن ضمّها إلى السرديّة مطلقًا، خاصّةً أنّها كُتبت على لسان المؤلف، بطريقةٍ خبريَّة مباشرة، بينما أتت القصّة على لسان الراوي العليم، وغُيِّبَ المؤلِّف نهائيًّا، ولم يحضر حتّى بضمير المتكلِّم المجازيّ. وبذلك، فإنَّ إخراجنا لها من محور حديثنا عن القصّة، هو التصرّف الأمثل، إذ لا يمكن الزجّ بها داخل السرديّة طالما توفّرت فيها كلّ هذه المعطيات. وهي بالفعل لا تُعَدّ ضمن السرد، وإنّما تشبه المقدّمة التي يدوّنها المؤلّف في بداية مجموعته القَصَصيّة أو كُتبه الروائيَّة، لذكر بعض التنبيهات التي يريدها.
ورغم كرهنا لمثل هذه المقدّمات، ورفضنا لوجودها في العمل السرديّ، سواء كانت للمؤلّف، أو لأحد قرّاء العمل، أو النُّقَّاد المحبّين، فإنّه لا يمكننا أن نُدخلها في حكمنا على العمل أو أن نوظّفها للنيل من السرديَّة. ننكر عليه فقط وجودها، ونتجاوزها إلى عتبات العمل الحقيقيّة التي لا تتضمّن - يقينًا - المقدّمة، أكانت جيّدة أم سيّئة. وقد يأتي من يرى عدم جواز استبعادها من السرديّة القصيرة، في ظلّ وجود مقدّمة تناولت الكتاب ككلّ، ونهضت بهذا الدَّور. ولمن يتبنّى هذا القول نقول: إنّ الإبداع في أساسه هو تفكير خارج الصندوق. فلا يليق بنا كقرّاء أو نقّاد مبدعين، أن نمارس كلّ هذه القسوة مع النصوص، ونطالب بقولبتها. ولا نلتمس العذر لتجاوزاتها حين يوجد ما يبرّرها.
ومِن زاوية أخرى، لا أظنّ أنّ هناك ما يمنع وجود حديث منفصل للمؤلّف، يخصّ به كلّ قصّة من قصصه، طالما فصله عن القصّة فصلا واضحا لا لبس فيه.
وخلاصة القول، إنّ قصّتنا التي نريد التحدّث عنها، تبدأ، بعد نقاط الفصل المد وّنة، من قول السارد العليم: «عندما وضعت قدمها على أوّل درجة من درجات المجد، تلقّاها بالتصفيق والهتاف ستّة من الأدباء والفنّانين..» انتهى كلامه.
كانت هذه بالفعل بداية الحكاية التي تشير فيها السرديّة إلى وجود فتاة وسط مجموعة من الذكور الذين يريدون التهامها، فبدا ظاهر الحكاية مبتذلًا لا أصالة فيه، ولا يبتعد عن العلاقة الماجنة التي تربط بعض الإناث بالذكور الذين يلاحقونهنّ. وأوحى بأنّ كلّ الإناث في مجتمع الذكور يكنّ مستهدفات، ويلعب كلّ ذَكَر دور الذئب المفترس، كما أخبرنا الكاتب في قوله: «كانت جميلةً وفي جمالها وداعة الحمل الذي يُغري الذئاب، وقد ظنّ كلٌّ منهم أنّه يستطيع أن يقوم بدور الذئب دون أن يكلّفه ذلك إلّا أن يُخفي أنيابه». انتهى كلامه.
وكما نلاحظ هنا، إنّ الاختزال والتكثيف، وهما حاجة أساسيَّة، لا تستغني عنهما القصّة القصيرة الإبداعيّة. كان أبرز ما ميّز هذه القصّاصةَ الإبداعيّةَ التي صوّرت لنا المشهد بأدقّ وأعمق وصف، بدون زيادة أو نقصان؛ فالفتاة في بداية القصّة كانت حَمَلًا مسالما لا يعلم بالخطر الذي يتهدّده، لكون الذئاب المحيطين بها أذكياء وواسعي الحيلة، بحيث إنّهم أخفوا جميعًا أنيابهم، رغم عدم تخلّصهم من شراهة الذئاب، ورغبتهم الملحّة في التهام الحمل.
إنّ هذا الوصف الإبداعيّ المختزل الذي صوّر لنا المشهد بكلِ تفصيلاته، يُعَدّ ركيزة أساسيّة في كتابة القصّ القصيرة، نجح فيه الكاتب بامتياز؛ فالأنثى طالما اختارت دخول مجتمع الذكور وهي بهذا الجمال، وبكامل زينتها، فإنّ هؤلاء الذئاب لن يمكثوا حملانًا، وإن اجتهدوا بدايةً في إخفاء غريزتهم التي ستظهر في مرحلة لاحقة عندما يسقط الحمل ويصبح فريسة لهم.
جاءت الحكاية من بدايتها غير متكلِّفة، تلتصق بقارئها وتُظهر له حميميَّتها؛ وهي الصفة التي يمتاز بها قلم عبدالقدوس، خاصّة في توظيفه الأكثر من رائع لحرف العطف «الواو»، إذ كان له مفعول السحر في إكساب الكلام شاعريّة يصعب وصفها، فهو لم يكن يربط الكلام ببعضه كما يُعتقد، وإنّما يُلصق القارئ بالنصّ بطريقة عجيبة، ويُشعره أنّ قلبه ينبض بين كلماته، ودمه يجري على سطوره. وقد لا أبالغ إن قلت إنّني ذُهلت من قدرة هذا الحرف العجيبة على إحياء الكلام الذي بثّ فيه روحًا تمتاز بالجمال الأخّاذ، ما جعلني أتعلّق بنصوص هذا الرجل أكثر كلَّما قرأت فَقْرة جديدة أو استوقفني مشهد لا ينبغي المرور عليه سريعًا. لقد شعرت، ولأوّل مرّة، بسرِ تسمية هذه الحروف «حروف العطف»، فهي تكفّلت بالفعل باقتناص عواطف القارئ الجيّاشة وصرفها باتّجاه النصّ، وأظنّ ذلك من أكثر ما يميّز مختلف كتابات إحسان.
كانت السرديّة لا تزال في بدايتها، ولم تُفصح عن خباياها بعد، عند انتقالها للحديث عن الأساليب القديمة والعقيمة التي انتهجها هؤلاء الذئاب في محاولتهم إسقاط الفريسة، بإرسال الهدايا، وكتابة المقالات التي تُشيد بالفتاة، ونثْر الورود والرياحين في طريقها، وفتح أبواب المجد أمامها... وكان ذلك ممّا اشتهر به المجتمع الفنّيّ. ونلاحظ هنا أنّ الكاتب كان لا يزال يصنع المقدّمة المحفّزة والمستفزّة التي تدفع القارئ للمتابعة. فهو لم يقل أكثر ممّا ينبغي قوله، ولم يأت بجديد في وصفه للحدث الذي ينوي التحدّث عنه، واعتمد في اجتذاب القارئ على التوقّعات الغريزيّة التي سوّق لها العنوان، وكذلك على أسلوبه الكتابيّ الجميل، وقدراته الحكائيّة الرائعة، وتمكّنه من قول القليل الذي يوصل المعنى ويحفّز قدراتنا العقليّة، ويهيِّج غرائزنا، ويطلق العنان لمشاعرنا. وهو قد نجح بهذه البداية المستفزّة والمستحوذة، في أوّل اختبار لكتابة القصّة الإبداعيّةِ. والجميل أنَّ ذلك كلّه أتى في بضع كلمات أحاطت بالأحداث، ووصفت تصرّفات هؤلاء الفتية خلال أشهُر من حضور الفتاة، وأطلعتنا في النهاية على فشلهم في الإيقاع بها، وكان في ذلك ذكاءٌ كتابيّ وقدرات حكائيّة رائعة.
هذه المقدّمة الإبداعيّة أخذت بأيدينا للغوص أكثر في الحكاية، وهي تخبرنا عن سذاجة الفتاة، ولعبها دور الحمل الوديع، وإمكانيّة افتراسها من اللّحظة الأولى، وأنّها لم تنج بنفسها وإنّما نجَتها المنافسة الغبيّة التي دارت حولها، والنهج الذي ابتدعوه عندما تكفّل كلّ واحد منهم بفضح الآخر. يمكن قراءة ذلك في قوله: «وبعد أن مضت شهور، اكتشف الرجال الستّة فجأة أنّهم لا يصلحون للقيام بدور الذئاب، وأنّ الحمل الوديع استطاع أن يسلم من أنيابهم، لسبب واحد: هو أنّ كلًّا منهم كان يستعمل أنيابه كلّها في نهش لحم زميله، محاولًا أن يبعده عن الحمل ليخلص له وحده.» انتهى كلامه.
كانت تلك بالطبع توطئة بُغية تجهيز القارئ للحكاية الحقيقيّة التي لم تكن قد بدأت بعد، وتحدّدت نقطة انطلاقها في تنبُّه هؤلاء الذئاب للفشل الذي مارسوه خلال الأشهر الماضيةِ، واكتشافهم أنّ العبث الذي كانوا فيه لن يحقِّق أيًّا من أهدافهم المرجوَّة، فقرّر وا الاجتماع وتنسيق المواقف، حسب وصف الكاتب في قوله: «واجتمع الستّة في مكتبِ أحدهم، وعقدوا مؤتمرًا لتوحيد الجهود وتنظيم الصفوف، واقتسام الغنيمة.» انتهى كلامه.
كما نلاحظ، إنّ الحكاية الآن بدأت تكشِّر عن أنيابها، وتُظهر عمقها الكبير الذي قد يتجاوز القصّة السطحيّة للفتاة؛ فهذا الاجتماع الموصوف يعيدنا إلى قراءة العنوان البسيط الذي اتّسم بالمباشرة والتعدُّديّة وهو يتحدّث عن الغرائز وعلاقة الرجال بالفتيات، لنكتشف أنّ العلاقة ليست عشوائيّة وليست غرائزيّة بدون ضوابط، وإنّما تعتمد على التخطيط؛ ما يجعلنا أمام معنًى مختلف يتخطّى الفتاة وهؤلاء الذئاب المحيطين بها، ويشير إلى اتّحاد المستنفعين واتّفاقهم على الطريقة المثلى لاقتسام الغنيمة. وهو بذلك يعطينا معاني مختلفة تمامًا، فالفتاة يمكن أن تكون مجرّد رمز للصيد المتاح، والرجال قد يرمزون إلى الانتهازيّين الطامعين. إنّ هذا المعنى الذي أظهره الاجتماع، يمنحُ العنوان بُعدًا إبداعيًّا يتكشّف للقارئ بعد غوصه أكثرَ في القراءة والفهم. وفي ظنّي، إنّ ذلك ما يميّز كلّ القصص الإبداعيّة التي تخاتلك في كلّ منعطف من منعطفاتها، ولا تسلِّم لك بأيّ معنًى يدور في رأسك، وتذهب بك يمنةً ويسرةً قبل أن تُسرّ لك بقولها الفصْل.
لقد كان المؤلِّف حصيفًا وهو ييْستَبِقُ القرارات التي تمخَّض عنها الاجتماع، بعرضه للنقاشات والحوارات، وتبادل الشتائم، وادّعاء كلّ واحدٍ من هؤلاء الستّة أنّه الأحقّ بالفتاة، قبل ذهابهم إلى حيث يريدهم السارد أن يذهبوا. ولم يكن ذلك عيبًا سرديًّا وإسهابًا غير مبرَّرٍ، لارتباط هذه الحوارات بمستهدفات القصّة الإبداعيّة الأصيلة، والاعتماد عليها كسيميئيّات أريد لها منح القصّة قيمتها الحقيقيّة وإخراجها من التفسيرات والتأويلات السطحيّة التي تختزلها في الأنثى والذكور المحيطين بها، والعلاقة الغريزيّة التي تفصل بينهم؛ ما يشير إلى أنَ الكاتب لا يزال يهيمن على أدواته، ويملك القدرة على اختيار السرعات السرديّة التي يريدها، وتحديد مساحات المشاهد المستهدَفة بما لا يتجاوز المعاني المرسَلة، وكان مقنِّنًا جدًّا في استخدام المفردات، إذ لا تجد مفردةً واحدة لا حاجة للنصّ بها. فأيّ قصّة قصيرة إبداعيّة تطمع بأكثر من ذلك؟!
هذا الصخب والتخاصم والصراع الذي عاشه الستّة، انتهى كما ينتهي دائمًا اجتماع المتهافتين على الغنائم، المنحازين دومًا لصوت شيطان عقولهم، وظهر ذلك في استعارة أحدهم ضمير المتكلّم وإبعاده الراوي العليم، مُنهيًا الخلاف، وواضعًا النقاط على الحروف، في قوله: «إنّ واحدًا منّا لا يستطيع أن يقول «أنا».. فالكلمةُ الأولى والأخيرة في هذا الموضوع الخطير يجب أن تكون للفتاة.. ويجب أن نتمسّك بفضائل «الجنتلمان» ونترك لها حرّيّة الخيار..» انتهى كلامه.
عند هذه النقطة بدأت السرديّة القصيرة في الانعطاف نحو إشارة النهاية، وقد أوشكت أن تُفصح عن قراءتها الأولى وهي تخبرنا أنّ جسد الفتاة كان هو ما يشغل الوسَط الذي تنتمي إليه؛ تُعقَد من أجله الاجتماعات، وتوحَّد الجهود للظّفر به... بينما تعتقد صاحبته أنّ الجميع مهتمّون بموهبتها الإبداعيّة. وهو الواقع المخيف الذي تعيشه المرأة غالبًا عندما تقتحم عالم الرجال من خلال أنوثتها، وتوظِّف جمالها لشقّ طريقها، فالكلّ يصبح طامعًا بجسدها. والنصّ يخبرنا أنَّها أوصلتهم إلى مناقشة الأمر وكأنَّها قضيّة مجتمعيّة أو أمميّة تهمّ كلّ أفراد المجتمع، بل كلّ العالم. والمقلق أيضًا أنّهم لم يتناحروا حولها ويتقاتلوا، بل حاولوا أن يتصرَّفوا بكياسة، حتّى يغتنمها واحد منهم، فيما يذهب الباقون للبحث عن صيد جديد، أو يعودون إليها بعد انتهاء الأوّل منها.
إنّ ما أخبرَتْنا به السرديّة لم يكن الغرض منه اللّعب على الغرائز وتوظيفها لتمرير إبداع مبتذَل لا قيمة له، كما يعتقد بعض المناهضين لأدب «إحسان»، بل كانت رصدًا لواقع حقيقيّ يعيشه المجتمع الفنّيّ الذي تتداخل فيه الإبداعات مع الغرائز بشكل مجنون. واستطاع المؤلِّف إيصال ذلك من خلال اتّفاق هؤلاء الأوغاد على الصدق في التحدّث عن أنفسهم، وتعريتهم لشخصيّاتهم الحقيقيّة، وإظهار ستّة مكوّنات مجتمعيّة يعتمد عليها هذا الوسط. وكان مبدعًا في ذلك وعميقًا جدًّا، وذكيًّا ودقيقًا في تعرية الوسط بطريقةٍ غير مباشرة، عندما أخبرنا عن مواصفات هؤلاء الذكور المتقاتلين حول الأنثى. ولكنّه لم يفوّت أيضًا وصف تصرّفات الأنثى التي كانت تقبل بهم جميعًا، وتمتطي ظهورهم للوصول إلى غايتها، من خلال ما ذكره المتحدّث باسمهم، من أنّها كانت عادلةً في عطائها الوجدانيّ للجميع، وإن لم تصل عطاياها إلى المستوى الذي يريدونه، في إشارة ذكيّة إلى تحكّم الغريزة في طرفَيْ الصراع، وقيادتها للحكاية، ولكن بمحافظة الفتاة على انضباطها؛ فاستثمرتهم من دون الخروج من حلبة السباق، محتفظةً بالجائزة الكبرى التي لم تمنحها لأيٍّ منهم؛ و هو سلوك غرائزيّ لا علاق له بالإبداع الفنّيّ الذي كانت تتوارى خلفه. أجاد المؤلّف تصوير هذا السلوك بدقّة وصدق متناهيَيْن، ولم يكن بالطّبع يسوِّق له أو يُغري به، وإنّما يريد فضحه، ولكن بذكاء، وبشكل لا يستثير المجتمع الفنّيّ ويدفعهم لمعاداته، بتغييب رأيه الشخصيّ المباشَر في هذا السلوك، وتركه لفطنة القارئ.
لقد استطاع المؤلِّف بذكاء شديد أن يُظهر لنا طبيعة المتهافتين على الفتاة، من خلال منحهم الفرصة للتحدّث عن أنفسهم أثناء اجتماعهم بها، ومحاولتهم إغراءها كي تنضوي تحت ألويتهم، واستخدم لذلك فلسفة عميقة تبرِّر تصرّفات كلّ واحد منهم؛ فذلك الأنانيّ الذي أراد، رغم أنانيّته وحبِّه لذاته، محبّة الآخرين، لكنّه، بعد أن فعل ذلك، لم يستطعْ محبّة أحد، وغرِق أكثر في أنانيّته، وهو ما قاده إلى التفلّت في علاقاته بالنساء، رغم غيرته على محارمه. وهي الصفات المتناقضة التي نجدها بالفعل في كثير من الرجال، ويعتقدون أنّ هناك ما يبرِّرها، أو لنقل، إنّ الكاتب أراد إفهامنا أنّ غالبيّة السلوكيّات السيّئة مبرَّرة لدى أصحابها، وثم هم مؤمنون بها، رَغم تظاهرهم بمعرفة سوئها، وبحثهم عمّن يخلّصهم منها. وتأتي هذه المعاني العظيمة كتفريعات لم يخل منها النصّ، تضمّنت رسائل فرعيّة دسّمت الحكاية، رغم شبه انقطاعها عن محورها، لولا براعة الكاتب وقدرته على وصل كلّ هذه الرسائل، مستخدمًا الصراع المحوريّ لتمريرها بذكاءٍ يُحسَب له.
ومع الثاني أظهرَ لنا المؤلِّف صنفًا آخر من الرجال الذين يعتاشون على أقلامهم الرخيصة، ويحقّقون الأموال الطائلة من خلالها. وهي الصورة التي نراها بالفعل في المجتمع الكتابيِ، وغالبًا ما يكون لهم الصوت الأعلى. ويعرِّج بعدها الكاتب على الصَّنف الثالث الحالم الذي لا يتحدّث إلّا عن المشاعر والأحاسيس، لكنَّه لا يملك ما يغوي النساء، بسبب شكله المنفّر. وهؤلاء أيضًا موجودون في هذا الوسط، وتشعر بهم الفتيات، وتُصبن بغصّة في الحلق؛ فالوسيم ماجن عِربيد، بينما القبيح حالم يَفيض بالمشاعر. ولعلّ ذلك كان مفتاحًا ليتحدَث الرابع عن قبحه الملاحَظ هو الآخر، لكنَّه لم يَعدَّه عيبًا، بسبب غناه الفاحش، وعلاقاته القويّة جدًّا بالمتنفّذين، واستطاعته تعويضها في حال وقع الاختيار عليه، بل ويبالغ في وصف احتياجه لها، بأنّه لا يتخطّى الظهور العلنيّ والمباهاة بها، دون الحجْر على حرِّيّتها وتركها لقمة سائغة للآخرين يفعلون بها ما يشاؤون. وهو بالفعل ما نجده عند بعض هؤلاء العاشقين للمظاهر، ويدفعون الملايين في سبيل ذلك ولا يمتلكون غيرةَ الرجال ولا حميّتهم.
كما نلاحظ، إنّ الرهان الحقيقيّ هنا كان مادّيًّا صِرفًا، في هذا العالم المجنون، بحسب رأي المؤلّف، حتّى أنّه عندما انحاز أحدهم للمشاعر، عاد سريعا الذي يليه إلى الإغراءات المادِّيّة، وهو يسعى لكسب ودّ الفتاة والاقتراب منها. وكأنّه يريد أن يخبرنا، بذكاءٍ شديد، أنّ المشاعر سلعة الفقراء، وهم يكذبون في ذلك أيضًا، وإنّما يلجأون إليها لعجزهم عن توفير المال الذي - في ظنّهم جميعًا - هو القادر وحده على الوصول إلى الفتاة. في وقت نجد الذكر الخامس يحاول إغواءها بالعزف على وتَر الفنّ، وأنّه الوحيد القادر على الأخذ بيدها من هذا الباب، محاولًا استثمار اكتشافه لها، وتقديمها إلى هذا الوسط، وأنّ عليها إكمال الطريق معه. لقد كان مغرورًا متعاليًا، ولم يبتعد، كغيره، عن التنافس المادّيّ دون الاقتراب من وجدانها وإحساسها. ليأتي السادس ويلفتنا إلى أنموذج مهمّ جدًّا من النماذج التي تتعثّر بها الإناث حين يقرّرن خوض هذا الصراع الغرائزيّ؛ فهو يمثّل الذكور صغار السنّ المتمتّعين بجاذبيّة تجعل الجنس الناعم يتهافت عليهم، فيما يسعون هم للوصول إلى المجد المنشود على أكتافِ تلك الفتيات.
وكانت النهاية المدهشة والمخاتلة لهذه الحكاية الواقعيّة الإبداعيّة أنّ الفتاة أخبرتْهم بأدب أنّها بالفعل تحبّ واحدا منهم، ولكنّها، كأنثى، تخجل من الإفصاحِ عن مشاعرِها، وإن كانت على يقين من أنّ هذا الشابّ يشعر بهذه المشاعر المتّقدة، ويستطيع الكشف عن نفسه. لذلك، طلبَت منهم جميعًا مغادرة القاعة وبقاء هذا الشخص الذي يشعر أنّها بالفعل تحبّه. وبذلك نكون قد وصلنا إلى النهاية الصادمة التي سيعرفها من يطالع هذه القصّة... ولا داعي لكشفها.
بالطبع هذا المستوى القرائيّ الأوّل للحكاية يمنحها قيمة كبيرة جدّا، فهي قد أظهرت لنا بطريقة غيرِ مباشرة، ومن خلال القصّة القصيرةِ، ما يدور خلف الكواليس الفنّيّة، ويحيط بالإناث الجميلاتِ اللّائي يتمّ إغراؤهنّ بالمجد والشهرة، ويستغلّهنّ الذكور الموجودون في هذا الوسط. وهي الصورة الحقيقيّة التي لا يمكن إنكارها. لكنَّها علاقة إثم تشارُكيٍّ، فالجميع يستفيد من هذا الانحطاط الإنسانيّ. وقد أجاد المؤلِّف في إظهار كلّ ذلك من خلال إضاءته السريعة، وقدرته على اختزاله في هذا المشهد التخيُّليّ البسيط، الذي اكتملت روعته بوصولِنا إلى النهاية المدهشة. ولكن، هل القصّة كانت سطحيّة ولم يكن في النصّ غير ذلك؟!
بالطبع لا، فهناك مستويات قرائيّة أخرى غاية في الأهمّيّة، إذ إنّ الفتاة قد ترمز إلى الغنيمة التي يتنافس عليها الجميع، بمعنى أنّها قد تأخذ بُعدًا سياسيًّا وفلسفيًّا، فتكون تلك الدولة التي تحاول شقّ طريقها، فتصطدم بهؤلاء المتنفعين الذين يحاولون الاستفادة من التنازلات التي تقدّمها، وتوزيع الأرباح بينهم. وهو ما يحدث، أو لنقل، هذا ما حدث بعد موت المؤلّف بسنوات، ورأيناه في القرارات الدوليّة التي تمّ الحديث فيها عن توزيع الكعكة علنًا، وبالطريقة التي ذكرها إحسان، بعد أن كانت تُدار في الخفاء وقت ترتيب المشهد العالميّ - بعد تغيُّر منهجيّة الاستعمار وأسلوبه - في معاهدة «سايكس بيكو». ويمكن أيضًا النظر إليها من خلال المعارك التي تكاد تُفني البشريّة وتتولّى قيادتها الدول الكبرى بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وهي تُدار بالأسلوب نفسه الذي يقتضي الجلوس والتباحث حول اقتسام الغنائم بطريقة راقية. ويُنظر بالطبع إلى النتائج بالطريقة نفسها التي وصفها المشهد؛ ما يعني أنّ الرسالة التي تريد القصّة إيصالها عنيفة جدًّا، وتتعدّد مستوياتها القرائيّة، وقد تمّ الوصول إليها برمزيّة إبداعيّة، عندما صنع لنا القاصّ حكايةً سطحيّة يعرفها أغلبنا، وأشغلنا بقيمتها الغرائزيّة، بينما مرّر من خلالها فلسفته العميقة المتعلّقة بالغنيمة وطُرق اقتسامها، وتعدُّد مستويات النظر إليها والحديث عنها. وكأنّه يريد من خلال هذه السرديّة القول إنّ الإنسان كفرد أو كعنصر في أيّ مجتمع، مهما بلغ حجمه، ينبغي عليه ألّا يكون لقمة سائغة للآخرين، كما ينبغي ألّا يكون صيّادًا عديم الأخلاق، والأمر بالتأكيد ينسحب على الدول.
لقد أوصل لنا الكاتب هذه القيمة من خلال المشهد الذي صوّره، حيث كان الجميع يمارسون السوء الذي ينهانا عنه، وهو ما يقودنا إلى القول إنّ إحسان عبدالقدوس القاصّ كان بارعًا، ولا يقلّ مستوى عن باقي جيله ممّن كتبوا القصّة القصيرة؛ بدليل هذه القصّة التي تُعَدّ خير شاهد على قدراته الحكائيَّة، واستطاعته صنع قالَب خياليٍ موظَّف، يستطيع من خلاله قول ما يريده، ويحمّله بفلسفته الحياتيّة وأفكاره الثوريّة، بمستويات قرائيّة متعدّدة، لا تُغفل أيًّا من قرّاء الحكاية، وتجتذبهم جميعًا لقراءتها، من دون انصراف بعضهم عنها بذريعة نخبويَّتها أو توظيفها السياسيّ الظاهر للعيان. وفي الوقت نفسه أظهر لنا، من خلال هذه القصّة، قدرته على التماهي مع اشتراطات القصّة القصيرة، وأظهرها كلّها بإتقانٍ منقطع النظير، دون إفراط أو تفريط، وهو ما يجعلنا نقول وبكلّ وضوح، إنّ ابتعاد إحسان عن القصّة لم يكن عجزًا، وإنّما خيارًا إبداعيًّا نجح فيه بامتيازٍ.