عالم الغد: فهم التبعات العالمية الناتجة عن موجة الصدمة الأوكرانية
«إذا كنت تريد غزو جارك بهدوء، فعليك أن تمتلك القوة النووية، وإذا كنت لا تريد أن تُعرِّض بلادك للغزو، فعليك أن تحتمي بالمظلة النووية»
حصد كتاب «عالم الغد»، الصادر في حوالي 288 صفحة عن دار النشر روبير لافون الفرنسية عام 2022، جائزة الكتاب الجوسياسي لعام 2023.
مؤلف الكتاب بيير سيرفون، حاصل على الدكتوراه في التاريخ، صحفي ومؤرخ ومؤلف لأربعة عشر كتاباً، خبير في الاستراتيجيات الدفاعية والجغرافيا السياسية، ضابط احتياطي تم تكليفه بمهام خاصة في منطقة البلقان وفي أفغانستان.
في هذا الكتاب «عالم الغد»، يجيب بيير سيرفون على جملة من الأسئلة الجوهرية التي لا تزال تطرحها الكارثة الناجمة عن الاعتداء الروسي على أوكرانيا: كيف نراجع قواعدنا الجيوسياسية دون تأخير؟ هل نحن محقون في الخوف من الأنظمة الشمولية؟ كيف نعيد تسليح أنفسنا عسكرياً وعقلياً وصناعياً؟ كيف يبدو عالم الغد؟
يوضح المؤلف في مقدمة كتابه «عالم الغد» أن الخوف الذي ينشأ من الأزمات المتكررة التي يمر بها العالم منذ أحداث 11 سبتمبر 2001 يولِّد سلوكاً منحرفاً لدى بعض قادة الدول الشمولية، ولهذا فإنه سيعتمد في تحليلاته على ثلاثة جوانب: الأول نفسي أيديولوجي والثاني دبلوماسي اقتصادي والثالث عسكري حربي. ومع ذلك فإن بيير سيرفون يلاحظ أن الصراع في أوكرانيا لم يصل إلى الحد الذي يمكن اعتباره صراعاً عالمياً، ويمكن أن يطلَق عليه «الصراع الذي يتم عولمته»، إذ يعمل هذا الصراع على تعديل أوراق رقعة الشطرنج الجيوسياسية والأيديولوجية والاقتصادية العالمية.
جاء الجزء الأول من الكتاب ليناقش الأسباب الحقيقية للعدوان الروسي الذي بدأ في فبراير 2022، لا سيما الذرائع التي يتذرع بها بوتين: فلأنه يحاول استعادة حقوق بلاده التاريخية التي تم اقتطاعها من الأراضي الروسية سابقاً، فلا يوجد في رأسه ما يدل على أنه يَعتبر نفسه غازياً أو معتدياً على أراضي الجارة أوكرانيا. لذلك فإن بوتين لن يتراجع ولن يكون هناك حلٌّ دبلوماسيٌّ لهذه الأزمة ما لم يختفِ هو ونظامه. إن الهدف المعلن للمعتدي الروسي هو اختفاء أوكرانيا كدولة كانت تتمتع بسيادة ومن ثم السيطرة عليها وضمها إلى روسيا. يُعبّر هذا الغزو عن رغبة بوتين في «روسنة» أوكرانيا ولكن أيضاً وقبل كل شيء المواجهة الضمنية مع الغرب.
في هذا الجزء من الكتاب، يكشف الخبير العسكري بيير سيرفون عن مسار القتال منذ الغزو حتى سبتمبر من العام الماضي، ويكشف عن الإمكانات الحربية للمعسكرين الروسي والأوكراني والمساعدات الأمريكية والأوروبية لأوكرانيا، كما أنه يشير إلى أن الفجوة التي اتسعت بين الديمقراطيات التي تضامنت مع الأوكرانيين والأنظمة الشمولية التي تتضامن مع الروس تجعل العالم في مهب الريح.
إن هذه الحرب، بالإضافة لما تحمله من تناقضات يتّسم بها عالمنا الثقافي والأيديولوجي، تكشف النقاب عن وحشية حكومات العالم المتقدم وتضع الأمم المتحدة في حالة موت دماغي وتفضح فشل «العولمة». فالعالم القديم يحتضر وستتضح ملامح عالم جديد وسيظهر مفترسون جدد، إنهم المفترسون الشموليون الذين لا يزالون في أماكنهم منذ سنوات: روسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية.إن هذه الحرب التي شنتها روسيا على أوكرانيا في 2022 تعد بمثابة عودة إلى سنوات الحرب العنيفة التي ضربت أوروبا، كما أن التحديات التي تثيرها تلك الحرب تتجاوز الإطار الجغرافي سياسي للمنطقة برمتها وتجعلنا نشهد صداماً حقيقياً بين رؤيتين عن عالمنا الحالي والمستقبلي:
من ناحية، فإن الأنظمة الشمولية في روسيا والصين اتّخذت قراراً بنزع الطابع الغربي عن كوكبنا وهي بذلك تقدم أنموذجاً يعطي الأولوية للقوة على حساب سيادة القانون وتسعى إلى غسل الأدمغة على حساب الضمير الحر. ومن ناحية أخرى، أن الديمقراطيات المتضامنة مع الأوكرانيين قرّرت معاقبة روسيا وتسليح وتدريب قوات فلاديمير زيلينسكي رئيس أوكرانيا.
أما عن الجزء الثاني من كتاب «عالم الغد»، فإن بيير سيرفون يدعو إلى ضرورة قيام فرنسا وأوروبا ببذل جهود إضافية خاصة ما يتعلق بتقديم الأسلحة والمعدات العسكرية لأوكرانيا من أجل جعلها قادرة على الدفاع عن نفسها ضد الطموحات الإمبريالية للنظام الشمولي الروسي. ضمن هذا السياق، يُعرب بيير سيرفون عن اندهاشه من موقف الرئيس التركي أردوغان Erdogan المبهم من الحرب وينتقد الرؤى ذات الطابع المزدوج لفيكتور أوربان Viktor Orban رئيس وزراء جمهورية المجر. ويستعرض خطة شي جين بينغ Xi-Jinping الصينية لإنهاء الحرب.
في هذا الجزء، يتناول بيير سيرفون العلاقة بين روسيا والصين ويصف هاتين الدولتين بأنهما من دول النمور الورقية على الرغم من شهية كل منها للانتقام من التاريخ، ومع ذلك فالصين تنتظر لحظة انهيار الدب الروسي لإعادة شرائه بثمن بخس.
الانتقام من التاريخ الذي لا حدود له يحث بكين على محو الإهانات التي تعرضت لها في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين عندما أحرق الإنجليز والفرنسيون قصر الإمبراطور. أما عن موسكو، فهي تريد محو الذل التي تعرضت له بانهيار الاتحاد السوفيتي دون قتال.
الحقيقة التي لا خلاف عليها أن الصين وروسيا تثيران الإعجاب، فقد نمت ميزانيات الدفاع في هذين البلدين بشكل كبير في السنوات الأخيرة، ويبدو أن شعوبهما تساند شي جين بينغ وبوتين بشكل كبير. فالدولتان قوتان نوويتان وقوتان فضائيتان قادرتان على إطلاق أسلحة مرعبة تفوق سرعتها سرعة الصوت، كما ضاعفت الدولتان منذ سنوات من مناوراتهما الهائلة بمساندة مئات الآلاف من العسكريين، ولهذا فُتِحت شهية روسيا وانتقلت مباشرة من المناورات العسكرية إلى غزو أوكرانيا. الأوروبيون من جانبهم لا يزالون يتنظرون نتائج هذا الغزو وهل يتم بمقتضاه فتح شهية الصين للانقضاض على تايوان أم لا.
يؤكد بيير سيرفون أنه في مواجهة هذه التحديات، لا ينبغي توقع أي شيء من القانون الدولي والمنظمات التي تم إنشاؤها بعد الحرب العالمية الثانية مثل عصبة الأمم (SDN) في ثلاثينيات القرن الماضي التي تحولت إلى ما يسمى بالأمم المتحدة الآن والمصابة بحالة من الموت الدماغي.
لا يعتقد مؤلف كتاب «عالم الغد» أن العالم سيكون على بعد خطوات من حرب عالمية ثالثة لا تبقي ولا تذر، وهو بهذه الرؤية الإيجابية يبعث برسالة يطمئن بها العالم بأن لا أحد يريد أن يخوض غمار هذه الحرب الفتاكة، لا الرئيس الروسي ولا الرئيس الصيني ولا حتى أوروبا وأمريكا.
ختاماً: يقول الخبير العسكري بيير سيرفون أن على الغربيين أن يتعلموا الدرس من هذه الحرب: من خلال تغيير أنماط استهلاكهم، إذ يتعين عليهم أن يتعلموا دون أن يبكوا طوال الوقت، ولهذا يجب التخلص بشكل جذري من السموم التي توجد في بعض المنتجات، التي يوفرها تجّار الغاز والنفط الروسي والصيني، خاصة المعادن النادرة الضرورية لصناعة الأسلحة وأجهزة التلفزيون والبطاريات والمركبات الكهربائية... إلخ، كما يشدّد بيير سيرفون على ضرورة انضمام فنلندا والسويد إلى الناتو وبالتالي تعزيز هذا الجناح العسكري المفيد لأوروبا والغرب.
يشير المؤرخ والصحفي بيير سيرفون إلى استحالة توفر حلٍّ دبلوماسي جاد ومتوازن لهذا الصراع طالما لا يزال بوتين ونظامه في الكرملين، كما أن السماح بتمزيق أوكرانيا سيكون جريمة ضد قيم فرنسا وأوروبا. يعتقد بيير سيرفون مؤلف كتاب «عالم الغد» أن بوتين لن يلجأ إلى استخدام الأسلحة النووية ويتعجب من لغة بوتين الساخرة في هذا الشأن: إنه يتحدث عن التهديد بالسلاح النووي الفتاك كغطاء لاستخدامه الأسلحة التقليدية. إن بوتين يبعث برسالة كارثية إلى العالم مضمونها: إذا كنت تريد غزو جارك بهدوء، فعليك أن تمتلك القوة النووية، وإذا كنت لا تريد أن تُعرِّض بلادك للغزو، فعليك أن تحتمي بالمظلة النووية.
** **
- د. أيمن منير