د. شاهر النهاري
معضلة جنسية الأدب مسألة معقدة مركبة، فالأديب يحسب على قوميته، التي يأتي منها، ولغته التي يستخدمها، فهذا أديب عربي، وتحت مظلة مصرية، أو مغربية، أو عراقية أو شامية أو يمانية أو حجازية، وهذا الكاتب فرنسي، وهذا روسي، وهذا إنجليزي، وهذا إسباني، وهذا ياباني، وتتعدد أفرع لهجات اللغة الواحدة سواء وجدت في إقليمية ضيقة، أو امتدت لعدد كبير من الدول حسب التبعية السياسية، باستخدام اللغة نفسها المتأثرة بالبيئة المحيطة، مثل اللغة الإنجليزية، التي يكتب بها البريطاني، ويكتب بها كل من تحكمه الثقافة الإنجليزية، مثل الأمريكي والكندي والأسترالي، وبعض من يكتبون في دول طالها الاستعمار الإنجليزي فترات من الزمن، كالهند، وجامايكا، وسنغافورة، وغيرها.
ومن تجاذبات لوثة الجنسية أطلق مسمى أدباء المهجر على جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي وفوزي معلوف ونسيب عريضة والريحاني وغيرهم، مع إهمال جنسية أوطانهم التي هجروها، وقومياتهم، وثقافاتهم، وإهمال محاولات كتاباتهم بلغة المهجر، لتأطير هجرتهم إلى دول المهجر المختلفة، فلا تدري هل هي حيرة في التسمية، أو أنها نوع من العنصرية ضدهم، أو إكبار وتبجيل لقيمة تجاربهم ومعاناتهم، أو تعمد تهميش جنسية الولادة، والوطن، أو التربية، أو منبع الثقافة الأولى.
السؤال عن جنسية الأدب يظل يطل على من تعددت مشارب ثقافاتهم من الأدباء، وهذا مجال نقدي جدلي، خصوصا حينما يكتب الأديب بلغته الثانية، أو الثالثة، ما يزيد صعوبة تحديد جنسية الأدب ونوعيته في معزل عن كل تلك المعاني.
الكاتب الذي يكتب باللغة الفرنسية لا يمكن اعتباره كاتبا فرنسيا، إلا عبر بوابة جنسيته الأدبية، حينما تقر به الثقافة الفرنسية معبرا عمَّا فيها، وأن تعتبره إضافة لثقافتها، وربما يكون فرنسيا مجنسا، أو من أواسط إفريقيا، أو من شمالها، أو من أرض طالها الفرنسيون يوما، وهكذا فيظل جنس أدبه حائرا هنا، ويحتاج لمزيد من الغوص والتنقية لتحديد الكنه.
جنسية الكاتب، وأصوله، وثقافته وعوامل تأثره تختلف في تركيبتها ونسبتها، وعندما يكتب بلغة يرتاح لها، فقد يظل متأثرا بمشاربه وطفولته وأساليب الكتابة، التي يتقنها، ويختارها، وربما تأتي إبداعاته من ضيق محدود، أو من مناطق جذب وتجريب متفرقة قد لا يميزها القارئ، فالبعض يتأثر بثقافة محلية أو مزدوجة أو عالمية أو مختلطة، والمواضيع أيضا تتبلور مندمجة وتتخذ شكل المنحنيات والعكوس، التي قد تقود عين الناقد إلى بيئة ووطن، وتتفهم ما تأثر به من تربية، وتراث وعقيدة، ومن لغة وتعليم وعيشة ربما اختارها وربما كان يحاول التملص منها.
جنسية الأدب عجينة، لا يستطيع فرز مكوناتها، إلا من تعمق في أساليب الدراسة والبحث والنقد والربط، وتخيل جميع الظروف، التي مرت بالأديب وتفكيك وسبر أغوارها.
إذن فجنسية الأدب تظل سمة حائرة، ذات أوجه عدة، تحتاج إلى مزيد من المعرفة اللصيقة والاستقصاء، ودون مغبة الحكم القسري، أو التعميم المفسد للتحقق، فليس كل أديب روسي يحمل جنسية روسيا، ولا يشترط معيشته في أريافها ومدن حضاراتها، ولا كل حكايات الأديب الهندي بالإنجليزية تحكي عن التاج بصيغ متبرئة من الحس الهندي، وكذلك النبض العقدي وصيغ الدهشة والمعتقد في حضارة لامسها.
في اللغة العربية نستطيع تلمس ذلك بوضوح، فعندما تقرأ لكاتب عربي، لا بد أن تسأل عن بلده، وتستشف جنسيته وقوميته وعقيدته ومكان طفولته وسكناه وولاءه السياسي، حتى تستطيع أن تنسجم وتتذوق طبيعة حكاياته، وأدبه.
بيرم التونسي مثال على تنوع الثقافات العربية وتناميها وتداخلها، وتأثيرات طفولته فيها، فهو شاعر مصري، ولد مارس 1893م، لعائلة تونسية اختارت مدينة إسكندرية لعيشها، وقد سكن حي السيالة الشعبي في طفولته مبتعدا عن ثقافة أجداده، لتصبح أشعاره وزجله من أشهر الأعمال الأدبية المصرية الشعبية، وبنوع من اتساع العين القادمة من ثقافة تونس، ولكنها بصيغة إثبات الذات تذوب وسط الزقاق المصري لدرجة التفوق على أهل الشارع في رسم خفة وجماليات الأدب، فيظل عند محبيه مصريا، وهو عند اسمه وعروقه تونسي.
والمثال الآخر الأديب اللبناني أمين معلوف، بأسرة مختلطة بولادته في بيروت فبراير 1949، وحياة جبلية لبنانية بقرية عين القبو، من أصول مسيحية أرمنية، ومشارب تركية، وثقافة عربية، ولسان فرنسي.
تنوع غني أعطى الأديب في جوفه ثروة مكانية زمانية وقومية وعقدية، ومكنه من لملمة تجارب وحكايات وتطلعات ظل يحكيها باللغة العربية تارة، واللغة الفرنسية مرات، وبأعمال أدبية تمت ترجمتها لمعظم اللغات العالمية، مع سؤال يظل حائرا عن جنسية الأدب، الذي كان يبدعه؟
أمين معلوف أديب مبدع في الرواية وقد كتب في التاريخ والمسرح الشعري والسياسي، ما جعل قراءه يمتدون على أمزجة عدة وخرائط وأعراق، ما أبقى أدبه مثار جدل وهبه الأهلية في وطنه، ليحوز جوائز أدبية وأوسمة، منها: جائزة غونكور الفرنسية، والوشاح الأكبر لوسام الأرز اللبناني، ووسام الاستحقاق الوطني الفرنسي، وغيرها، قبل أن ينتخب رئيسا لأكاديمية اللغة الفرنسية بجنسية أدب خليط لا يتفق عليها.
فهل بعد كل ذلك يمكن أن تحسب أعمال أمين معلوف على جنسية معينة، وهو كل هذه الفسيفساء من المشارب والألوان والإبداعات، التي تشاركت في صنع موزاييك تكوينه؟
جنسية الأدب ليست جغرافيا مستقلة، ولا تراث ولا تربية أو عقيدة واضحة ترتبط باللغة، ولا عنصرية حزبية أو سياسية، ولا تجارب ضيقة تعتمد على الخيال في أجزاء منها فقط، فتظل أكثر تشعبا من ذلك، وحتى أن من عاش أديبا محليا مثل نجيب محفوظ، والذي كان قليل السفر مدفونا في تربة النيل، ليكون أديبا يمتلك جنسية الأدب المصري، بصيغة صافية خالصة، مع أنه يكتب طوال عمره في مقهى شعبي يعشقه وسط تجمع محبيه وأصدقائه، المصريين، ولا نستطيع أن نحدد تأثر مشاربه من خلال ثقافات من كانوا يجالسونه من مختلف الأقطار.
وصول نجيب محفوظ للعالمية بنيل جائزة نوبل، أتى من نسبة وضوح جنسية أدبه العظمى، والأقل تأثرا بشتات الثقافات، ما نقله من المحلية الصرفة للعالمية، التي وجدت فيه نقاء جنسية الأدب، ودون خلط.