الهادي التليلي
أن تفكر بطريقة غير مألوفة في الأشياء المألوفة وأن تحاول تغيير الأفكار السائدة والعقليات الراكدة والمستكينة لقناعات متوارثة تأبى مشقة العقل والتفكير في مدى تنسيب معارفها للواقع، فهذا أمر يحتاج إلى حفر في العقول ونحت في الواقع، لأن من طبع الإنسان الميل إلى سكينة المتوارث والحرص على عدم تغييره واعتباره بمثابة المقدس، فكل تغيير اجتماعي يقابل بمقاومة من السائد هذه المقاومة نتيجة لمأسسة السابق في ذهن اللاحق كما لو كانت جملة المعارف المتوارثة والتي قد تكون منطقية في وقتها مقدسة ومتعالية على النقاش.
هنا تحضر كل واحد منا معاناة الأنبياء في أقوامهم نتيجة الاستماتة التي يبديها حاملو الثقافة السائدة والذين يرون في الفعل الحضاري المتغيِّر مسألة تمس بقداسة المعارف المتوارثة فمع كل نبي رحلة معاناة شاقة في سبيل إحداث التغيير الملائم فما عاناه كل نبي مع قومه يترجم استماتة السائد في الدفاع عن فكر لم يسهم لا هو ولا واقعه في إنتاجه وهنا جدير بالتذكير أن علاقة العامي بالفكر المتوارث تتجاوز العلاقة الطبيعية بين الفرد وموروثه الرمزي إلى علاقة بين الإنسان ووعيه فتحيين المعارف مع اللحظة ليس تطويراً وتغييراً بالنسبة للإنسان العامي الذي يأبى تحريك السواكن وخلخلة الثوابت في ذهنه قد يكون ذلك لكسل على إحراج الذات بإعادة النظر في الثوابت وقد يكون لعلاقة حميمية بين العامي وما ورثه من مسلمات وقد تكون مؤسسة المجتمع صممت المعارف ورتبتها في خانة الممنوع من النقاش.
يحضرنا أيضاً ما عاناه العلماء في سبيل تغيير رؤية الناس للعالم وفق ما وصلوا إليه من العلوم ولعل محاكمة عالم الفلك والفيزياء الإيطالي غاليليو غاليلي من طرف محكمة التفتيش الكاثوليكية بعد نشر كتابه «الرسالة الفلكية» والتي رأى فيها نتيجة ما وصل إليه من خلال تلسكوبه الجديد حينها من كون الأرض وغيرها من كواكب مثل كوكب الزهرة تدور حول الشمس وتنتمي للمجموعة الشمسية هذه المحاكمة التي دامت من 1610 إلى 1633 انتهت بإدانته بتهمة دعم نظرية مركزية الشمس التي تمس من المعتقد السائد الذي تراه الكنيسة وقتها من كون الأرض مركز الكون، غاليلي الذي أجبر على الاعتذار والقول إنه مخطئ حفاظاً على أمنه وسلامته وصرح للعالم والتاريخ وهو يغادر المحكمة بمقولته الشهيرة «ومع ذلك فهي تدور» بالإيطالية «E pur si muove»
كما يحضرنا في نفس السياق معاناة الفلاسفة والمفكرين ولعل المثال الأكثر إثارة أبو الوليد ابن رشد الذي وعلى قيمة آراء وأفكار سابقيه مثل ابن سينا والفارابي وغيرهم فقد أعمل معول نقده، بل واختلف معهم في مسألة يكاد الحديث عنها جريمة فكرية ألا وهي علاقة الدين بالفلسفة، حيث وعلى عكس الغزالي الذي يقف عند نقطة «نور قذفه الله في قلبي» وكتب مؤلفاً كاملاً «تهافت الفلاسفة» ليرد عليه ابن رشد بمؤلف «تهافت التهافت» معتبراً بأن الفلسفة لم تكن أبداً متقاطعة مع الدين أبو الوليد الذي ألف 108 كتب لم يصلنا منها إلا القليل بسبب الأمر بحرق كتبه ليكون حرق مكتبة ابن رشد لحظة قاسية على الفكر والوعي البشري فابن رشد الذي نفي عن قرطبة إلى مراكش التي مات فيها يعد مرجعاً أساسياً في أعتى الجامعات العالمية في مجال الفلسفة الإسلامية التي نهلت من الفكرين الأرسطي والأفلاطوني.
ويحضرنا كذلك الكاتب والمحدث التونسي الطاهر الحداد الذي ألف في سنة 1930كتاب «امرأتنا في الشريعة والمجتمع» والذي طالب فيه بدور فعَّال للمرأة في المجتمع ودلَّل على أن ذلك لا يتعارض مع الشريعة الطاهر الحداد الذي كان يستعد ساعتها لخوض الامتحان النهائي لنيل شهادة الحقوق قوبل بهبة شعبية فهذا العالم الزيتوني محمد الصالح بن مراد يصدر مؤلفاً كاملاً في الرد عليه حتى قبل تصفحه الكتاب «الحداد على امرأة الحداد» مصدراً إياه بقوله «هذا حساب قبل تصفحي الكتاب» والشيخ محمد البري مدني أهدر دمه كاتباً مؤلفاً كاملاً «سيف الحق على من لا يرى الحق» وغيرهم كثير الأمر الذي دفع بالشيخ الطاهر بن عاشور إلى إصدار فتوى بحجز الكتاب ومنعه على الناس ولم يقف الأمر عند هذا الحد، حيث صدر أمر من الباي العثماني آنذاك بمنع الطالب الطاهر الحداد من دخول قاعة الامتحان، معاناة هذا المفكر لم تقف عند هذا الحد، حيث عزل اجتماعياً فانطوى على نفسه في عزلة إلى حين وفاته.
التغيير الاجتماعي مخاض صعب ولا يقدر عليه إلا المؤمن فعلاً برسالته، فالفكر السائد لا يحتمل المس بالثوابت التي ترسخت كمؤسسة ثابتة في ذهن من توارثها و تلك محنة التغيير الفعلي تستدعي صفاة إبداعية في القيادي الجسور والمبدع الجريء وثقافة عالية وهنا يكمن دور المؤسسة التربوية والتعليمية التي رهانها الأساسي التعليم المعاصر وبناء فكر تنويري يقبل الحقيقة وغيرها، فالمؤسسة التربوية والتي لا نعني بها فقط المؤسسة التعليمية وإنما السياق الأملي تنشئة وعي الأجيال الواعدة من أسرة ومجتمع مدني هذه المؤسسة هي أساس بناء أجيال تؤمن بنسبية الحقيقة وقادرة على تقبل أي شيء على رأي جون جاك روسو في كتابه إيميل «قبل أن تعلمني أي شيء ربيني كي أتقبل كل شيء».