الهادي التليلي
في الحقيقة نشوء مفهوم الفاشية على تقادمه ترسخ في العالم الحديث في فترة ما بين الحربين العالميتين، هذه الفترة التي نشأت فيها نزعات التشاؤم واليأس وتغيرت رؤية العالم للأشياء والمصير الذي لم يعد واضح المعالم، ومما عمق أسباب النشوء حدوث الأزمة الاقتصادية العالمية 1929 التي جعلت العالم في جحيم الفقر والجريمة هذا الوضع العام الذي كان أرضية لبروز نزعات يمينية متطرفة فكان أن ظهرت بإيطاليا سنة 1920 وتوجت بالحكم من طرف موسوليني الذي استطاع أن يفرض على الملك الرضوخ للأمر الواقع سنة 1922 وذلك بتأسيس حكومة شعارها البراق الذي حرك مشاعر الكادحين هو «إرادة الشعب ليست وسيلة للحكم وإنما وسيلة للقوة التي تفرض القانون» فلا يهم التموقع في أعلى سدة الحكم أو رئاسة الحكومة المهم الصلاحيات التي تسمح بتطبيق القانون وحصر النفوذ والقوة بيد السلطة التنفيذية، فكان القائد هو الملهم وهو الموجه للجميع بالخطاب وبالنفوذ وصعود الفاشية الإيطالية للحكم في إيطاليا كان محفزاً لصعود النازية بألمانيا سنة 1933 مع أدولف هتلر الذي احتكر كل السلطة وحرك العصبية العرقية وأجج رغبة الضمير الجمعي في القوة والخروج من كرة جحيم فترة بين الحربين بكيان قوي قاعدته الأساسية الطاعة العمياء للقائد في مقابل تحقيق التوزع الجغرافي والانتقال إلى كيان مهيمن على العالم هذه النجاحات في الوصول إلى سدة الحكم والتي كانت لبلدان عانت من قسوة ومرارة أزمات ما بين الحربين، والتي كانت مخرجاً لها بحكم كونها الأقل حظاً ونعني بها إيطاليا وألمانيا التي كانت ترى في نفسها قوة عظمى وتحتاج إلى فرصتها لسيادة العالم ونفس الشيء تجسد في إسبانيا التي لا تقل بؤساً عنهما في تلك الفترة حيث ظهرت حركة الفلنجية التي صعدت إلى السلطة في 1939 قبيل الحرب العالمية الثانية وغير بعيد عنها ظهرت حركة لاونيس اليونانية ولكن بأقل تأثير في الشأن العالمي وذلك في 1936.
في واقع الأمر الفاشية كانت سليل إحساس الأوروبي المحروم والذي خرج من سلطة الكنيسة وصراعاتها خاصة بين الأرتودوكس والكاتوليك إلى نمط حكم غير محقق لأبسط مستحقات لمواطن وغير صامد أمام الهزات وهو ما ترجمه واقع ما بعد الحرب العالمية الأولى الحقل الذي أنتج هذه التيارات والتي بدورها أشعلت فتيل الحرب العالمية الثانية.
ظهور الفاشية وتجسدها تاريخياً ارتبط بالنزعات القومية ذات الصبغة اليمينية وفي العالم العربي ظهرت تجارب قومية ذات توجه يستند في بنائه على كاريزما الحاكم فظهرت التيارات القومية في خلافات تنظيرية تترجم تنوع التجسيد على أرض الواقع من خلال أطروحات ميشيل عفلق وعصمة سيف الدولة وغيرهما وعلى الواقع السياسي تجسدت التيارات القومية ولكن بأقل توهج من التيارات الفاشية الأوروبية وإنما بحلم عربي نحو التوحد في التجربة الناصرية بمصر مع جمال عبد الناصر والبعث العراقي مع صدام حسين والبعث السوري مع بشار الأسد هذه التجسيدات على الواقع لهذه النزعات وجدت من الاتحاد السوفياتي السابق وروسيا وريثته الداعم للتجربة كشكل من أشكال توفير ما يعبر عنه بالتوازن الإستراتيجي بين المعسكرين الغربي الليبيرالي والشرقي الاشتراكي.
فالفاشية FASEISM والتي تعني العصبة والفاشية بما معناها حزمة الصولجان حسب الدلالة الحرفية لكلمة FASCIM والمصطلح المعتمد في تصنيف هذه التيارات نجد بكونها تنطبق على التيارات الغربية بشكل حرفي وإطلاق المفهوم على التجارب العربية مسألة تحتاج ربما إلى مزيد من التدقيق ولكن الثابت والأكيد أنها كلها نزعات قومية تمجد الفرد المسيطر وتروم التوسع لتحقيق حلم قومي كبير والملاحظ أن ظهور هذه النزعات في الحكم خاصة في العالم العربي يتزامن مع ظهور نزعات معارضة ذات منحى ديني متشدد يتم التعامل معها بغير لين مما يصنع لهذه التيارات المعارضة مجداً نضالياً لم تكن تتوقع أن تحصل عليه كرأسمال سياسي تعاني منه الشعوب لاحقا لكونها في مراحل من تناميه تصبح طامعة في السلطة بأحلام توسعية مختلفة، ولكن ليست قومية بل دينية وهنا يحدث التقاطع الموجب للعنف، فهذا يحلم بوطن عربي من المحيط للخليج وذاك طموحه تحقيق أمة إسلامية وفق سيناريوهات متعددة إستثمرتها بعض القوى الخارجية النافذة لتحقيق أطماع جيوسياسية من ناحية وإطلاق حروب بخفافيش ذات رداء ديني آخرها القالب الداعشي فالجلباب القومي يلبسه حاكم يحمل الحلم لشعبه الخارج من ربقة الاستعمار بتأسيس امبراطورية قاهرة أساسها اللغة والجغرافيا ورهانها تحرير المقدسات وهذا الجلباب كان وراء بروز ظاهرة الإخوان المسلمين في مصر في الستينيات مع سيد قطب ومن لف لفه وكانت سببا في اغتيال السادات وفي سوريا ظهور الإخوان المسلمين كتحد للدولة القائمة في حماة مطلع الثمانينيات وفي الجزائر وكرد على التجربة الاشتراكية برزت حركة الفيس الاخوانية المتشددة وأما الرداء الديني فيلبسه إمام أو سياسي يوهم تابعيه بأنه الإمام القادر على تجسيد دولة إسلامية في كل العالم وبين هذه وتلك تفوح روائح إيديولوجية ضيقية وأطماع خارجية موظفة كما تنتج مخابر غربية جينات مركبة تستثمر في مجال الإسلاموفوبيا وتحصد صابة البترول التي هي قد تكون السبب الأساسي لمعظم القلاقل.. ولا حديث بين هذه وتلك عن الدولة بمفهومها المدني التي توفر الرخاء لشعبها وتحترم الآخر المجاور والمختلف ولسائل أن يسأل ونحن نحاول الحفر في هذه الأسئلة الحارقة والتي تحاول أن ترى الصور متعددة الأبعاد لمشهد واحد والجواب أن ما حدث ويحدث للعراق وما حدث ويحدث لسوريا وما خسرته مصر من جغرافيتها بعد التجربة الناصرية وما عانته الجزائر وكل هذه الدول تتمتع بثرواتامة وتعتبر مراكز ثقل مهمة إقليميا خسرها العالم العربي من جراء هذه الأحلام الطوباوية.
وما يهمنا في هذا الصدد أن هذا العالم المتحرك والذي لا يستطيع الصمود أمام الهزات كيف سيكون بعد كورونا التي تعتبر بمثابة الحرب العالمية ولكن ضد وباء قتل الملايين وفتك بالبشرية وحجر البشر قصرياً وجعل النظر للمستقبل يغلب عليه التشاؤم كيف سيكون المشهد وعديد الدول ومنها بعض الدول التي تخرج من كورونا كما خرجت من الحرب العالمية الأولى منكسرة وهنا تحضرنا خاصة إيطاليا وإسبانيا وعن العالم العربي لا تتحدث.. ما بعد كورونا أشبه بما بعد الحرب العالمية الأولى وربما أشد مرارة وإذا لم تتحرك الأسرة الدولية بالتضامن والتآزر ومحاولة سد فجوة الفقر المتزايد بين الشعوب وبناء أسرة إنسانية متكاتفة فإن خطر كورونا النفسي والمادي على الشعوب التي رقصت حافية على زجاج كورونا قادر أن يحولها إلى فاشيات جديدة تحت أي رداء ربما يكون دينياً أو قومياً أو غيره ولكن إذا كان أخطر سلاح تم اعتماده في الحرب العالمية الثانية هو القنبلة الذرية فإن أسلحة أشد خطورة تنتظر البشرية أبسطها الجرثومية وأخطرها ما تخبئه المختبرات السرية في دهاليز العالم الذي لا نراه والذي قد يخبئ كائنات قد تشبه البشر وقد تنتج كائنات متحولة.
الحرب العالمية القادمة لو قامت قد لا تكون هناك بعدها حرب لأنها قد تعصف بالكائن البشري لذا على البشرية أن تكتب بالممحاة مصطلح الحروب وتبني سلما اجتماعيا مبنيا على التسامح واحترام الآخر واعتبار الإنسان هذا الكائن المهدد مصيره الرأسمال الأكبر، ولابد من الحفاظ عليه بتوفير تعليم راق يربي الأجيال على المحبة والإخاء ولا مجال للكراهية بين الأفراد والشعوب فالفاشية الدينية والعرقية مرض لا دواء له إذا نشأ مع الأجيال وصار عقيدة يعيش من أجلها الأشخاص، والتسامح هو المضاد الحيوي الناجع لبناء المجتمعات والمستقبل المشترك.