الهادي التليلي
التبرع بالأعضاء يعد باباً آخر للإيثار بين البشر وتحقق للإنسانية بتواصلها من خلال قيم أخلاقية سامية، وهو ليس أمراً وليد اليوم، بل هو سليل احتياجات كانت البشرية تنتظر تطور الطب والجراحة لتدخل في مجاله منذ 1954، حيث قام الجراح الأمريكي جوزيف موراي بأول عملية زراعة أعضاء من المتبرع رونالد لي هيريك الذي عاش من 1931 إلى 2010 فكان هذا النجاح باباً للبشرية للتقدم في هذا المجال ونافذة نجاح للجراح المذكور، حيث فاز بجائزة نوبل للفيزيولوجيا لسنة 1990.
نجاح جوزيف موراي كان فعلاً فتحاً للبشرية وأملاً للملايين من سكان الكرة الأرضية الذين استفادوا ويستفيدون من التبرع بالأعضاء الأنسجة والقرنيات، وقد شملت مجالات التدخل في هذا الإنجاز الطبي التدخل بالتبرع بالأعضاء التالية: الكلى، القلب، الكبد، البنكرياس، الأمعاء، الرئتين، العظام، نخاع العظام، الجلد، والقرنيات، إضافة إلى الأنسجة وغيرها.
البشرية مع تقدم العلوم لم تنتظر ظهور التشريعات التي كانت وقتها تكبلها بعض التصورات الأخلاقية المغلوطة، والتي مصدرها سوء فهم وعدم قراءة التقدم العلمي القراءة الصحيحة، زد على ذلك تأخر الكنيسة في إعطاء الضوء الأخضر بعد قراءة دامت أكثر مما يجب لتستقر في أن إنقاذ الشخص لشخص آخر بالتبرع بالعضو هو إيثار وهو من صلب روح الديانات السماوية التي نشأت على حب الآخر ومساعدة الإنسان لأخيه الإنسان.
الجهود العلمية لم تكن وحدها على الميدان وفي المشهد لحظة التأسيس، حيث كانت المعادلة معقدة يدخل فيها القانوني من خلال التشريعات والقوانين والديني من خلال يحلل أو يحرم ويدخل فيها الأخلاقي من خلال قدرتي على مساعدة الآخر أي إنقاذه وتركه يموت، والحرية الشخصية من خلال موافقة المتبرع عند الحياة، وسماح أهله بعد الوفاة، والمحاذير والتحديات من خلال الخشية من تحول العمل الخيري النبيل إلى سوق تجارية وسياحة عمليات استئصال الأعضاء.
وفي كل هذا المخاض العلم لم يبق مكتوف الأيدي وحماسة الجراحين لتحقيق فتوحات أخرى في المجال كانت أكثر من عمل علمي أو واجب مهني أو جهد أخلاقي لقد كانت تحدياً وجودياً بأتم معنى الكلمة، فسجلت البشرية انتصارات مهمة في المجال، حيث أجريت عمليات لافتة للانتباه مثل العملية التي أجريت على متبرعة أسكتلندية عمرها 107 أعوام بعد وفاتها، قدمت قرنيتها، وعدت بذلك أكبر متبرعة، كما أجريت عملية ناجحة أخرى لأصغر مأخوذ منه وهو طفل لم يعش سوى 100 دقيقة، حيث أخذت كليته لشاب يعاني من القصور الكلوي، كما أجريت عملية في تكساس للتبرع بالكبد على شخص عمره 92 عاماً بموافقة أسرته، ولعل أول تجربة للتطوع الإيثاري كانت سنة 1985، حيث إن امرأة بريطانية سمعت بحاجة أحدهم للتبرع بكبد فقطعت مسافات لتتقدم كمتبرعة فورية.
في نفس السياق، وفي مختلف قارات العالم، كانت الجهود التشريعية والقانونية حثيثة، حيث حرصت الدول على ضمان استمرارية أبنائها من خلال توفير مختلف السبل القانونية لترسيخ زراعة الأعضاء كممارسة قانونية بغايات نبيلة، يستفيد منها اللاحق من السابق، بتواصل إنساني يواكب بأخلاقياته التطور العلمي، وبذلك يخرج العلم عن التهمة التي طالما رمي بها من كونه لا إنساني إلى روحه الحقيقية، والتي هي أن يكون في خدمة الإنسانية، فالعلم عامة والطب على وجه التخصيص هو إنساني في عمقه وتجلياته وجهود زراعة الأعضاء والأنسجة تعطي الدرس والدليل على نبل ومعاني هذه الممارسة المهنية الإنسانية، حيث تم تشريع هذا النمط النبيل في أغلب بلدان الكرة الأرضية، وتقدمت التشريعات التي تطورت وتكيفت مع الوقائع، وتعددت الاجتهادات انطلاقاً من مدى معرفة من يرغب ومن لا يرغب، حيث ظهرت نظرية القبول والتبرع الطوعي، كأن يسجل الراغب عن طواعية برغبته في التبرع، وهذا النمط الأول أو يعتبر كل المواطنين الذين يتجاوز سنهم 18سنة متبرعين، إلا من يعرب عن رفضه رسمياً كما ظهرت اجتهادات أخرى كأن يعتد برأي العائلة في لحظة القرار بالقيام بالتبرع بعد الوفاة من عدمه.
وهنا جدير بنا أن نذكر بالقرار التاريخي للكونغرس الأمريكي الذي حرر أيادي الأطباء والمتمثل في القرار 26.066 الصادر في 22 ديسمبر 2005، حيث لا يحتاج الفرد إلى التسجيل كمتبرع بالأعضاء لأن الجميع متبرعون إلا من رفض ذلك، أي أن من لا يرغب هو من يسجل وهي المعبر عنها بالانسحاب وهي نظرية طبقتها كذلك كل من النمسا وألمانيا وغالبية الدول الأوروبية، ولم تتأخر دول أمريكا الجنوبية عن ذلك، حيث التحقت الشيلي بالركب في سنة 2010 وكولمبيا في 2016، وبذلك تحققت نتائج مذهلة، حيث حققت ألمانيا مثلاً 12 بالمائة، وهو رقم جد مشجع، ويتوقع أن يتطور بحكم كون الجيل المتبرع بقاعدة الانسحاب ما زال الكثير منه على قيد الحياة.
ولعل الفتح التشريعي الذي لا يقل قيمة على هذا هو الصادر من الكونغرس الأمريكي والصادر في 4 يونيو 2018 الذي يقضي بإلغاء متطلبات موافقة العائلة وحصر الموافقة على المتبرع أثناء حياته واعتباره الوحيد صاحب القرار، واعتبار هيئة الغذاء والدواء الأمريكية هي الرقيب والضامن لسلاسة وقانونية المجال، فالجهود الأمريكية والأوروبية في مشهد التبرع بالأعضاء تعد كبيرة جداً، حيث استطاعت وعلى اختلاف توجهات تنظيمها من التسجيل لدى البعض أو الانسحاب لدى البعض الآخر لتتحول إلى ثقافة إنسانية عالية المنسوب وتربية يتغذى على منسوبها المواطن في المدرسة، وفي وسائل الإعلام، وفي الحياة العامة والخاصة، لدرجة أصبحت جزءاً من الواجب الأخلاقي المفروض من الإنسان تجاه أخيه الإنسان، فتطورت جراحة التبرع بالأعضاء عند الأحياء، وهو ما يعبر عنه التبرع الإيثاري، وازدادت أعداد المتبرعين بعد الوفاة.
في العالم العربي تعد التجربة السعودية من التجارب اللافتة والمهمة، حيث أحدث المركز السعودي لزراعة الأعضاء منذ 1413 ويشهد مجال تبرع الأعضاء تنامياً عالي المنسوب لجهود القيادة الرشيد والتي من خلال حرص خادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين حققت نتائج جد مشجعة، حيث تم تنفيذ 9268 عملية ناجحة، وسجل أكثر من 17534 لعدد 20971 من المنتظرين المحتاجين للتبرع، أي أنه يضاهي في نسبته من الحاجة والمتقدمين لتلبيتها المجتمع الإسكندنافي، بل تعد المملكة العربية السعودية من الدول القليلة في العالم التي يسجل فيها قيادتها كمتبرعين، وهو ما يعكس صدق الإرادة والريادة في التوجهات، هذا ما حققه العلم والتشريعات والقيادة فأين المجتمع المدني الذي ينسب ثقافة التبرع بالأعضاء مع الواقع هذه الثقافة التي هي من صلب وجوهر ديننا الحنيف ومن عمق أخلاقنا ومواطنتنا فالتبرع بالأعضاء لا بد أن يكون شعار الأيام القادمة لأجل الأجيال التي ستأتي، ومن يمكن أن نسهم في حياتهم فحسب مركز زراعة الأعضاء السعودي، يمكنك أن تنقذ حياة 8 أشخاص، كما يمكنك أن تنقذ أو تحسن حياة 50 شخصاً من خلال التبرع بالأنسجة والقرنيات، ويمكنك ويمكن أن تساهم بأكثر لو ساهمت بنشر ثقافة التبرع والإيثار عبر كل المنصات حتى يكون الكل شركاء نجاح.