د.عبدالله بن موسى الطاير
لا أستطيع تجاوز انفجار مرفأ بيروت، ولا أريد أن اجتر ما لاكته الأقلام والألسن طيلة الأيام الماضية. مواساة الإنسان البيروتي الذي فقد عزيزاً، أو داراً، أو تحطم فوق رأسه الزجاج، أو طمره الركام، واجب لا تحول بيننا وبينه المذاهب والأديان والأحزاب السياسية. بيروت احترقت، وتهشمت، وكادت أن تنزوي في ركن القنوط لولا أن تداركها العالم بمدد ودعم إنساني غير مسبوق.
ولأن العجائب في لبنان لا تأتي فرادى، فقد كان من أغرب ما بعد الفاجعة أن تضيء تل أبيب مبنى بلديتها بألوان العلم اللبناني تعاطفاً مع الإنسان في لبنان، وأن يتصل الرئيس ترامب شخصياً بالرئيس اللبناني ويعبر عن عزمه المشاركة في مؤتمر باريس الذي دعا إليه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لدعم لبنان، ومن توالي الغرائب أن يتجول ماكرون في شوارع المدينة المنكوبة، وكأنه رئيس لبنان المنتخب بحب اللبنانيين وليس بالترغيب والترهيب والمحاصصة الطائفية. ومن غير المألوف في الدول ذات السيادة أن يوقع عشرات الآلاف من اللبنانيين عريضة يطالبون فيها بعودة الانتداب الفرنسي وهم يقولون سقى الله أيام «الفرنسيس» التي خاطت دستور لبنان الطائفي.
ليس اللبنانيون وحدهم من يريد للانتداب أو الاستعمار أن يعود للدول العربية، فهناك من يتمنى عودة البريطانيين والهولنديين والطليان والإسبان لاستعمار دولهم بعدما رأوا من فشل الدول الوطنية التي لم تنتج سوى تراكم الفشل التنموي، وتوسع الجهل والفقر والمرض والدوران حول الذات، وتدوير الفشل ليتوارثه جيل بعد آخر مقارنة بدول تحررت من الاستعمار بعد الدول العربية أو معها، وهي الآن في مصاف الدول الصناعية المتقدمة. الفرنسيون والبريطانيون والأمريكيون يرون أن عودة الاستعمار سيقف عليهم بالخسارة ولذلك فلا مجال لأكثر من سيطرتهم على قرار الدول وتوجيهها ضد مصالح شعوبها، وحماية الفاسدين الذين يخزنون في بنوكها ما نهبوه من قوت شعوبهم، وتبقى صورة فرنسا وأخواتها زاهية كما بدت في استقبال ماكرون في بيروت. لقد حارب العرب للتحرر، وقاتل المستعمر للبقاء، واليوم يتوسل أحفاد المحاربين عودة الاستعمار، بينما يتمنع أحفاد المقاتلين وينأون بأنفسهم عن احتلال الدول العربية لانتفاء الحاجة.
ومن عجائب التفجير أن اللبنانيين أجمعوا على رفض النخب الحاكمة، واعتبروها فاسدة، وساووا في ذلك بين المستقبل الذي خلفه الرئيس رفيق الحريري، وهو الذي طرق باب السعودية، وأمريكا والغرب ليصالح بين اللبنانيين ويعيد إعمار البلد بعد الحرب الأهلية (1975 - 1990) التي عصفت به، وتبوؤ لبنان بهذا البناء مركزًا متقدماً في الاستثمار والسياحة والأمن والاستقرار وأعيد تأهيل المرافق والبنى التحتية، وبين حزب الله الذي نشأ وفي عقيدته تأسيس إمارة تابعة للولي الفقيه، ومنذ تشكله عاث في لبنان فسادًا وأخرجها من إطارها العربي وأصبح مركزًا رئيسًا لإنتاج الإرهابيين وتدريبهم سنة وشيعة وشيوعيين في لبنان وخارجها.
النخب اللبنانية والإعلام إلا ما ندر جبنوا عن تحميل حزب الله المسؤولية عما آل إليه وضع لبنان الاقتصادي، وبدلاً من توجيه الاتهام مباشرة إلى سبب نكبة لبنان، عمموا شتائمهم لجميع النخب الحاكمة، في تغافل عن الطائفية التي سببت فساد النخب، وماكرون بذاته لا يمكن له أن يقبل في لبنان بغير الدستور الطائفي.
فساد النخب الحاكمة والأحزاب والتيارات لم تعد تهمة محلية لبنانية، وإنما قضية يبدو أنها ترقى للإدانة عبرت بوضوح عنها مذيعة قناة CNN بيكي أندرسون وهي تصفع جبران باسيل بعدد من الاتهامات التي تأبى المروءة قبولها، بيد أنه لم يستفز، ولم يتذمر، وإنما اجترح لها المبررات. هل سيصلح هذا التفجير الشبيه بالنووي، والذي لم تشهده بيروت في تاريخها، حال السياسة في لبنان؟ الواقع أن إصلاح الحال من المحال طالما يتم حكم البلاد من سرداب يختبئ فيه معمم اسمه حسن نصرالله تنقل له الشياطين توجيهات مرشده الذي بايعه على الولاء والطاعة في مكره لبنان ومنشطه. كما أن أية ثورة يأملها اللبنانيون لا يمكن لها أن تنجح إذا لم تبدأ من داخل الأحزاب والتيارات لتجتمع بعد ذلك في حضن لبنان. لقد كتبت ذلك في ذروة الاحتجاجات الشبابية في وسط بيروت قبل جائحة كوفيد - 19، وكانت قناعتي وما زالت أن أي ثورة لبنانية لن تحقق شيئاً إذا لم تكن ضد الطائفية ولاقتلاع حزب الله من جذوره.