د.عبدالله بن موسى الطاير
ما يجري في ليبيا لا يعني الليبيين، وإنما يخص عددًا من المتنافسين - وعلى رأسهم تركيا - في هذا البلد المنكوب الذي يسجِّل أكبر مخزون نفطي مثبت في إفريقيا. وإذا كان الليبيون ضحايا صراع متعدد الأقطاب على أرضه فإن مصر مهددة في أمنها القومي بسبب ما يحدث في ليبيا؛ لأن الحرب هناك تأخذ طابعًا خطيرًا؛ إذ لا يمكن السيطرة على المحاربين المستأجرين من جنسيات عدة، كما أن السلاح الذي ينتشر بدون ضوابط، من اللغم الأرضي إلى المدفع، يشكل خطرًا على مصر، لا يقل عما تواجهه في سيناء من مخاطر، إن لم تكن أشد خطرًا.
المليشيات والجماعات الإرهابية التي تقوم تركيا بترحيلها من سوريا إلى ليبيا قطعت علاقتها بأوطانها الأصلية؛ ولذلك فلا مجال لإخراجها من ليبيا إلا إلى صراع آخر يتطلب خدماتها، أو أن تؤسس لها دولة شبيهة بإمارة داعش منتهية الصلاحية. الحدود الليبية مع الجزائر والنيجر وتشاد ومصر والسودان تعتبر مثالية لإقامة إمارة إرهابية تزيد إفريقيا اضطرابًا وفوضى. لقد خلص المفتش العام لوزارة الدفاع الأمريكية في تقرير له إلى أن تركيا أرسلت ما بين 3500 و3800 مقاتل سوري مدفوع الأجر إلى ليبيا خلال الربع الأول من 2020. ولا أستعبد أن يتم تمرير العناصر الإرهابية الموجودة في أفغانستان والعراق إلى ليبيا عن طريق إيران، خاصة مع تسارع جهود السلام في أفغانستان، وحزم الحكومة الجديدة في العراق. وهذه المخاوف تشكل مبررًا كافيًا للقلق المصري من تحول ليبيا إلى محطة للجماعات الإرهابية.
المشكل الليبي دخل التدويل من أوسع الأبواب، وأخذت تعقيداته اتجاهات غير مفهومة إلا للمخططين لها. الثابت أن أمريكا متورطة إلى النخاع، وأن حليفها الرئيس هو تركيا وليس أوروبا. هذا ينسجم مع ما أعلنه مستشار الأمن القومي السابق جون بولتون - إذا كان كلامه صحيحًا - من أن الرئيس ترامب يعتبر أن الاتحاد الأوروبي أسوأ من الصين، وهذا تعبير يندر أن يخرج عن رئيس أمريكي تجاه شريكه في القيم والثقافة والأمن والمصالح. والرئيس الأمريكي يختص بكراهيته فرنسا، ولا يمكن له أن يسمح لها بدور في ليبيا؛ ولذلك اصطفى عدوها التقليدي تركيا لتكون ممثلاً للمصالح الأمريكية.
لا يبدو أن المؤسسات الأمريكية متفقة جميعها مع الرئيس؛ ففي حين تصرح وزارة الدفاع بأعداد المرتزقة الذين يتم إرسالهم من تركيا إلى المعارك إلى جانب حكومة الوفاق نلاحظ اتفاق الرئيس التركي ونظيره الأمريكي في اتصال هاتفي في الأيام القليلة الماضية على العمل عن كثب لضمان تحقيق استقرار دائم في ليبيا. وبعد هذا الاتصال يخرج مساعد وزير الخارجية الأمريكي ديفيد شينكر ليقول إن «عمليات الاعتراض الوحيدة التي ينفذها (الاتحاد الأوروبي) تستهدف المواد العسكرية التركية إلى ليبيا. لا أحد يعترض الطائرات الروسية، ولا أحد يعترض الطائرات الإماراتية، ولا أحد يعترض المصريين».
مصر تدرك تعقيد الوضع في ليبيا، وتصارع الإرادات، خاصة بعد خبوت صيت اللواء حفتر الذي ارتكب خطأ فادحًا بفقدانه الثقة الأمريكية، ونجاح مناوئيه الدوليين في تصنيفه ضمن المشروع الروسي في ليبيا، ورصد تحركات له مع بعض الدول الآبقة في أمريكا اللاتينية، وهي تصرفات تغضب أمريكا، وتجعلها لا تفكر في أمن دول جوار ليبيا، بقدر سعيها للتصدي لروسيا وفرنسا. ساعات قليلة تلت تأكيد الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي أن «مصر، في حال تدخلت في ليبيا، ستغيّر المشهد العسكري بشكل سريع وحاسم». مشيرًا إلى أن مصر ستتدخل بشكل مباشر في ليبيا لمنع تحولها لبؤرة للإرهاب، ومشددًا على أنه يحتاج إلى موافقة البرلمان المصري للتدخل في ليبيا. لتتوالى الأخبار عن بدء ملء سد النهضة. إعلان شتت جهود مصر الدبلوماسية بين سد النهضة وليبيا، وكلاهما ذو علاقة بالأمن القومي المصري. هذه التداخلات غير البريئة هدفها إرغام مصر على إعادة حساباتها، وترتيب أولوياتها وإشغالها عن ليبيا. مأزق مصر لا يخصها وحدها، إنه جزء من عملية شاملة تعيد العرب تحت الاستعمار المباشر أو الوصاية. ويتضح جليًّا أن القوى الإقليمية تتخادم بشكل لا لبس فيه لتقاسم النفوذ في منطقتنا العربية. إيران وتركيا وإثيوبيا وإسرائيل تشكل كماشة حقيقية تطبق على العرب، بيد أن المستفيد الأكبر هو أمريكا وروسيا والصين في تنافسهما على تشكيل نظام عالمي جديد.