د.عبدالله بن موسى الطاير
حاول العثمانيون إصلاح دولتهم في القرنين 17-18، كانوا يوقفون التدهور ولا يعالجون أسبابه التي تمثلت في احتكار السلطة من قبل الطبقة الحاكمة المتمصلحة. بعد كل عملية إصلاح، تُستأنف السلطة بطرقها القديمة دون الأخذ في الاعتبار نشوء الدول القومية في أوروبا. تركيا القومية ولدت لتزاوج حدثًا بين ضعف الدولة الأممية وتمكن الدولة القومية، ولذلك فإن الحلم التركي بإعادة إنتاج الدولة العثمانية غير واقعي. وما يحدث حاليًا هو مسكنات تبقي كيان الدولة متماسكًا دون معالجة أسباب الضعف الاقتصادي، والشتات العرقي، والتمايز الطبقي، وازدواج الهوية؛ إنها مناكفات وشعارات تشغل الداخل وتربك الخارج من أجل شراء الوقت للملمة شؤون الدولة التي دخلت الجيل الثالث من عمرها وهو أخطر ما تمر به الدول.
إلى الجنوب غير المحاذي لتركيا، نمت قناعة الإصلاح وتطورت في عقل ووجدان الملك سلمان وهو يراقب عمليًا أداء الدولة السعودية منذ تشكيل أول مجلس وزراء سعودي في عهد والده -رحمه الله، عام 1373هـ، وهو العام الذي تولى فيه إمارة الرياض بالنيابة وعمره 19 عامًا.
منذ عام 1954م وحتى توليه المُلك عام 2015م عكف على مراقبة أداء الدولة، وبذل وقته في قراءة تاريخ أسرته الحاكمة منذ الدولة الأولى، وعرف كيف سقطت الدولتان السعوديتان الأولى والثانية، واطلع عن كثب على التاريخ، واستمع لأقسى أمنيات أعداء المملكة الذين لطالما أشاروا إلى هرمها، ووضعوا خططهم لتقطيع أوصالها. كان يعرف تفاصيل العلاقات بين أبناء الأسرة الحاكمة من خلال الممارسة، ومن بطون الكتب التي وصفت علاقة آل سعود ببعضهم عبر تاريخهم، وعلائق الأسر الحاكمة ببعضهم حول العالم. كان يراقب تحولات الدول الإقليمية، وعلى اطلاع بأدق تفاصيل العلاقة مع أمريكا وبريطانيا وفرنسا. وبالرغم مما تكون لديه من تشخيص دقيق، وتصور متكامل للإصلاح، فإنه كان من الأدب بحيث يحترم الأكبر منه في الحكم فلا يتدخل في غير ما يخص إمارة الرياض وفي ضوء ما يوجه به إخوته الملوك -رحمهم الله.
تولى الملك سلمان السلطة وهو خبير بوضع الدولة، ومكامن قوتها وضعفها، وعلاقاتها وتحالفاتها، وتفوق بجسارته على قادة الإصلاح في الدولة العثمانية، عندما بدأ الإصلاح من أعلى قمة الهرم دون وجل ولا مجاملة.
كشفت السنوات الخمس الماضية عن مسارين لمشروع الملك سلمان الإصلاحي؛ الأول إيقاف الوهن الذي أصاب مفاصل الدولة، والثاني بناء إدارة مستقبلية تستند إلى رؤية سياسية وأمنية واقتصادية واجتماعية شاملة.
فكيف استطاع تنفيذ خطة الإصلاح؟ وكيف عكس عوامل الضعف إلى روافع للنهوض؟
مشروع الملك سلمان لم يتشكل بمجرد تسلمه المُلك وإنما تطور خلال ستة عقود، وتراكمت تجربته وخبرته بالتطبيق، وسخر الوقت لتصور وسائل التنفيذ ومراجعتها، وفق رؤية تتجاوز المصالح الشخصية الضيقة. وعلى سبيل المثال لا الحصر، فقد صرف الملايين من الريالات على علاج المرضى على حسابه الخاص، ولذلك أهلته النزاهة الذاتية من استهداف الفاسدين دون هوادة.
أدرك الملك سلمان أهمية التنفيذ، فمن تجارب بلاده والآخرين، عرف أن الخطط وحدها لا تعدو كونها مسكنات لا تعالج أساس البلاء، ولذلك اختار من أبناء الأسرة الحاكمة أعلاهم همة، وأشدهم جسارة، وأتقنهم في التنفيذ، وهو الأمير محمد بن سلمان، ليعهد إليه بإصلاح الدولة وقيادة مستقبلها.
الإصلاح الهيكلي الذي دشنه الملك سلمان منذ اليوم الأول لتوليه الحكم يضع المملكة على عتبات المستقبل، دولة فتية متجددة قابلة للحياة والمنافسة والريادة، ويقيني أن تركيا تراقب عن كثب كما تفعل إيران وأمريكا وأوروبا. وأجزم أنهم متفاجئون مما حدث ويحدث عكس أمنياتهم وتوقعاتهم، ولكنهم في الوقت ذاته يدركون ألا مجال أمامهم سوى إفساح الطريق للمملكة العربية السعودية لبناء دولة وطنية ذات مسؤولية ودور إقليمي ودولي.