د.عبدالله بن موسى الطاير
لأننا نعيش وسط الأحداث يصعب علينا رؤية ما وراءها، ولأننا تعودنا على نظام عالمي استقر لنحو 74 عاماً يتعذّر علينا تصور خلافه. كوفيد-19 أعاد التأكيد على أن دوام الحال من المحال، وأن شيئاً لا يدوم كما هو، وأن سنن الله في التدافع ماضية، وأن غطرسة الإنسان وزعمه بأنه يملك مقاليد الأمور، ويتصرّف في مصائر الأحداث ليست أكثر من وهم اجتاحت حصونه كورونا ذات صباح فأمسى هشيماً تذروه الرياح.
أحدثت الجائحة فوضى في عقولنا ونفسياتنا قبل أن تحدثها في الحياة العامة، وفتحت مخيل الاحتمالات على مصراعيه، وهيأتنا لترقب ما لم نره يوماً، ولم نتوقّع حدوثه من حولنا، إن على شكل أوبئة، أو كوارث طبيعية، أو سياسية، أو اقتصادية.
ألفنا العالم العربي، وأمنه القومي، وجامعته العربية منذ أدركنا ما وراء الحدود، وتعودنا على النقد المكرور، وجلد الذات، وأن الجامعة كيان لا يهش ولا ينش، ومع ذلك كنا متعايشين ولا نتخيل تغييراً حقيقياً في المنظومة، بل وربما لم نكن نطيق حصوله. ربما لم يكن مسموحاً أو مبرراً أن نتحدث عن تفاحة فاسدة بين 22 تفاحة، لنواجه اليوم عدداً أكبر من التفاحات الفاسدات التي يقتضي المنطق عزلها لمصلحة البقية بعد أن فشل الاحتواء ودفء الحضن العربي في إصلاحها. ربما يعيدها إلى جادة الصواب كثرة اللطم من أعداء الأمة العربية عندما ينفردون بها خارج السرب. هكذا إجراء قد يكون أحد المتغيِّرات غير المألوفة التي علينا أن نتقبلها وأن نتعايش معها.
هل تخيلنا اليمن يمنيين مرة أخرى؟ جنوبي وشمالي؟ بل هل يمكن تصوّر اليمن مكون من ستة أقاليم مترابطة بشيء من الفدرالية أو الكونفدرالية أو منفردة؟ اليمن مرشح لتغييرات عميقة، كما هي ليبيا وسوريا والعراق. والكيان الإسرائيلي الذي تعودنا عليه محاطاً بالعداء وعدم الترحيب يتسرّب للمألوف، وقد نبلعه بحجم يفوق حجمه الحالي، فقد أصبحنا مستعدين بفضل كورونا لتقبل المستحيل.
التحالفات الثنائية التي تربط الدول ببعضها البعض قابلة للتغير أيضاً، فروسيا لم تعد ملحدة بعيدة عن الشرق الأوسط وإنما هي الآن في قلبه، مقدمة نموذجاً أكثر واقعية لتمرير إسرائيل ومنحها المزيد من الأرض السورية التي تتصرَّف فيها كما تشاء، على غرار تنازلها عن الجولان في قمة هلسنكي الأمريكية الروسية. أصبحت روسيا جزءاً من حلول مشاكل المنطقة وأي تغيير في خارطة الشرق الأوسط ستكون روسيا حاضرة على طاولة الرسم.
على نطاق أوسع، الأمم المتحدة التي أسست عقب الحرب العالمية الثانية من أجل تدعيم حالة السلام وإغراء الدول بتقبل ميثاقها بالسمع والطاعة للعقلاء الكبار الخمسة؛ أمريكا وروسيا وبريطانيا وفرنسا والصين تغير حالها، وتجاوز بؤس بعض أعضائها التفاحات الفاسدات إلى التمرّد على مواثيق الشرعية الدولية والتنمّر على أعضاء آخرين. الآبقون يكيّفون الشرعية الدولية على حسب مصالحهم متكئين على واحد أو أكثر من العقلاء الخمسة، وكنا قبل الجائحة نتعايش مع الألم حتى لا يأتي الأكثر إيلاماً. الحقيقة أن الدول الأعضاء في الأمم المتحدة لم تعد ومنذ أمد بذات المزاج والحاجة للتعاون والحماية، واكتفى الخمسة الكبار من شفط موارد العالم الثالث، وأصيبت المنظومة الدولية بالخلل الذي يجعلها اليوم أقرب إلى المنصة الشرفية، وكنا نخشى من التغيير خشية من الأسوأ، بيد أن فيروس كورونا عصف بكل الثوابت. علينا أن نتوقّع في ظل سباق المتغيرات حزماً دولياً بضوابط جديدة يستبعد الأعضاء الآبقين ويحاسبهم على خروجهم عن النص، وينشئ نظاماً عالمياً جديداً يقوم على المسؤولية والالتزام باستقرار الدول الأعضاء، وعدم التدخل في شؤونها بدعاوى الحريات والديمقراطيات التي فصلتها دول وأيديولوجيات على مقاساتها ويريدون للعالم أن يلبسها كما هي وبدون خيار الرفض.
ليس من ريب أن روسيا والصين تتضجر منذ حين من استعلاء الإخوة الكبار العقلاء؛ أمريكا وبريطانيا وفرنسا، ولا تخطئ عين المتابع حجم التغيير الذي وصلته الصين منذ عام 1946م، وهي وإن كانت دولة نامية على ورق الأمم المتحدة، وسعيدة بذلك، للحصول على المزيد من الطرق المفتوحة للأسواق العالمية، فإنها اليوم تنين ضخم لم يعد بالإمكان احتواؤه أو فصل مصالحه السياسة عن مصالحه الاقتصادية.
ليس علينا أن نستغرق في العناد ونتمسك بما ألفناه ردحاً من الزمن، فكل شيء من حولنا يتغيّر، وبرتم أسرع، وما وصل إليه حال العالم مع كورونا يجعل تقبل أي تغيير في العالم مقبولاً، وغير مستغرب.