د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
اختلفت المذاهب في أصلها حول تفسير أمور بعينها قد لا تمت للدين بصلة، أمور اجتماعية وسياسية ألبست لباسًا مذهبياً. الصراعات والتراكمات التاريخية نفخت في هذه الخلافات مما جعل مذاهب الدين الواحد تبدو وكأنها ديانات مختلفة. فقد نشبت حروب مذهبية في أوروبا في عهد الإصلاح، حروب كاثوليكية بروتستانتية أبيد فيها ثلث سكان ألمانيا (1918-48)، ومات في عموم أوروبا 10 ملايين أوروبي في عموم الحروب المذهبية في عهد الإصلاح. وقد لعبت التصاوير، والتماثيل، والتمثيليات، وحلقات ذكر الرهبان دورًا كبيرًا في دفع البسطاء للتضحية بأنفسهم في هذه الحروب.
تتكون معظم الأديان من طبقات تراتبية رأسها رجال دين تضفي عليه قدسية تنزهه عن الخطأ يتلوه رهبان ومفسرين يختلفون شكليًا في توجهاتهم وأهدافهم، وبعدهم طبقات من الدهماء عطلت عقولها تأخذ تفسير الكون والحياة، والثواب والعقاب من الحلقة المصغرة من الطبقة الأولى. وقلما سلم دين في مرحلة من مراحله من الخزعبلات والخرافات التي تُبتدع فيه لأمور لا علاقة لها بأمور الدين والعبادة، والتقرب لله. وهناك بلدان كالهند أو الصين بها مئات الأديان والمذاهب التي قد يستغربها عقل من هو خارجها.
وتصادف هذه الأيام، أيام عاشوراء، يوم خاص بالنسبة للمسلمين بمذاهبهم كافة، والسنة يصومونه أسوة بالرسول ويرجون في ذلك مضاعفة الأجر. أما بالنسبة لبعض الطوائف الأخرى فهو يوم حزن وكرب يصادف معركة كربلاء حيث قتل الحسين رضي الله عنه. ولو توقف الأمر عند الحزن والأسى فهذا أمر طبيعي ويمارس في جميع المذاهب، لكن استغلال هذا الحزن لأهداف سياسية واجتماعية واقتصادية هو ما يثير الاستغراب. وما يدفع للدهشة هو إيذاء الناس أنفسهم وأبنائهم وأطفالهم بشكل مفزع اعتقاداً منهم أنهم يشاركون الحسين في الألم، تمامًا كما يفعل المسيحي المتطرف عندما يصلب بنفسه ليحمل ألم المسيح. بل إن هناك ممارسات أخرى لا تقل غرابة عن ذلك، مثل زحف الناس على بطونهم لبعض المزارات، أو تمريغ أنفسهم في الوحل وغير ذلك من ممارسات لا تذكر.
وتجسد عادة في هذه المناسبات شخوص الخلفاء والأنبياء وحتى شخوص الأبالسة والشياطين بأشكال ميلو درامية تُخرج من يشاهدها، ناهيك عمن يشارك فيها، إلى عوالم مسرحية أخرى غير مألوفة، عوالم تستحضر الغيبيات، وتجسد المجردات، وتضفي واقعية غريبة على كثير من الخرافات، ويساعد على ذلك التحفير القوي لأحاسيس الحزن والألم. وبينما ينشغل الضعفاء بأحزانهم وإيذاء أنفسهم ينشغل قادتهم بأمور أخرى تمامًا لا علاقة لها بأمور الحزن والتمثيل، أمور تتعلق بالنفوذ والسياسة والمال.
وهنا تبرز أهمية القبور والأضرحة والمزارات التي تصرف عليها أموال طائلة، فهي تغذي مخيلة المتدين لتهيئه للمشاركة في مثل هذه الطقوس. فالأضرحة والمزارات حاجة أساسية وبنية تحتية لتغذية وجدان ما أسماه أريك هوفر «بالمؤمن الصادق»، أي المومن المغيّبُ الذي يصدّق كل ما يقال له، ويكون صادقًا في ولائه لمن يستغلون المزارات ويغذونها بالخرافات؛ وهو بلا وعي مستعد للتضحية في سبيلهم. المؤمن الصادق يشكل الوقود سريع الاشتعال للحرب المذهبية.
هناك مذاهب كالسنة مثلاً فطنت لخطر هذه الأضرحة والمزارات، ولخطرها على استغلال عقول الضعفاء في أمور خرافية شركية سبيلاً لاستغلالهم ماديًا أو معنويًا لأمور لا علاقة لها بالدين، ولذلك أزالوها عن بكرة أبيها لاعتقادهم أنها مخرجة للملة وأن ضررها أكثر من نفعها. أما إيران وبعض العصابات الأخرى فكانت لها رؤية أخرى. فهذا المزارات والطقوس مهما بلغت من البشاعة والسذاجة تشكل مناجم دخل لا تنضب، ومعسكرات تجنيد تزودهم بمقاتلين مطيعين يقودونهم حيثما شأوا، أجساد بلا عقول.
والأمر لا يقتصر على الإسلام أو دول العالم الثالث فقط بل ويمتد لدول كبرى في العالم كأمريكا وبريطانيا وألمانيا حيث تمارس الكنائس والمعابد طقوسًا مشابهة يتم فيها تمثيل الصعود للسماء، أو الكلام المباشر مع الإله، أو الشفاء اللحظي للمرضى. ويتم استغلال جهل الضعفاء في التبرعات التي تذهب لأثرياء يشرفون على الكنائس، يسكنون القصور ويركبون الطائرات الخاصة. ولولا الدجل الديني لما ذهب المستوطنون لإسرائيل وضحوا بأنفسهم ومالهم ولما دعمتهم قوى ما يسمى بالكنائس الصهيونية. والأخيرة اختراع مسيحي حديث بدأ في القرن التاسع عشر بتأثير المال اليهودي. فمنطق الخرافة هو أن من يصدق صغيرها يبتلع كبيرها. وخرافة المنطق هو في أن يقتتل الناس في عالم اليوم حول أحداث عفت عليها قرون من الزمن وبني معظمها على قصص وخرافات.