د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
ارتكبت كندا خطأ دبلوماسيًا فادحًا بالتدخل السافر في شؤون المملكة الداخلية، وتلقت بالطبع جوابًا صاعقًا لم يتح لها مجال لأية ردة فعل. فمن أصول الأعراف الدبلوماسية أن يكون دور السفير لدى الدولة المستضيفة تلطيف الأجواء وحل الخلافات وليس تأجيج المشاكل. ولا بد أن يكون السفير صديقًا لهذه الدولة محبًا لها ولذا اُشترط قبول أوراق اعتماده قبل مباشرته لعمله. لذا أيد الجميع، بما فيهم أغلبية الكنديين، إجراءات المملكة العقابية واعتبروها ردًا مشروعًا، واعتبروا تجاوز السفير ووزير خارجيته حماقات مستهجنة.
الأزمة أشبعت نقدًا وتحليلاً وكانت حديث الإعلام لأيام متتالية، ولكنها أيضًا أبرزت بعض الأمور الجانبية التي تستحق النظر والمناقشة. فالسعودية سحبت استثماراتها من كندا، وأوقفت بعثات طلابها في الجامعات الكندية، وأوقفت الطيران إلى كندا، ولكن كان الأهم بالنسبة للكنديين هو سحب ما يزيد عن 1000 طبيب سعودي يتدربون في مستشفيات كندا. والتدريب في الطب يختلف عن غيره من المجالات في أن الطبيب المتدرب يمارس العلاج الفعلي وله عدد مخصص من المرضى، والأطباء المقيمون في المستشفيات يتحملون العبء الطبي الأكبر في المستشفيات.
كلفة تخريج الطبيب الواحد في المملكة تتجاوز المليون ريال، أي أن الألف طبيب الذين ابتعثوا للتدريب في كندا كلفوا النظام التعليمي في المملكة أكثر من مليار ريال على أقل تقدير. وفي رسالة الجمعية الملكية للطب في كندا للحكومة فإن الأطباء السعوديين متميزون ويصعب تعويضهم في المستشفيات الكندية، ومعروف عن البورد الكندي الطبي أنه أحد أفضل برامج البورد في العالم، وقد تفاعل مدراء المستشفيات التي يتدرب فيها الأطباء السعوديون مع سحبهم بكثير الحسرة واتفقوا على أن ذلك سيؤثر على مستوى الخدمات الصحية في عموم كندا، فالأطباء السعوديون يشكلون نسبة 80 % من الأطباء المناوبين في المستشفيات التي يعملون بها، وهم حسب تصريحات الأطباء المشرفين على المستشفيات أطباء من أعلى طراز. والأهم من ذلك كله أن هؤلاء الألف طبيب لا يكلفون النظام الصحي الكندي سنتًا واحدًا، أي أنهم يخدمون بدعوى التدريب بالمجان، ورواتبهم تدفعها الحكومة السعودية بحجز مقاعد لهم في البورد الكندي وتحمل كامل الرسوم، كرم لا يقاربه أي كرم من أي دولة صديقة. 1000 طبيب مجاني يعالجون ما يقارب 80000 ألف كندي، وبالمجان، وطيلة عقدين من الزمان!!
وهنا علينا التوقف قليلاً حيال بعض هذه الأرقام والحقائق. وأول الحقائق المستفادة من هذا الأمر هو الرد على من يشكك في مخرجات التعليم السعودي فها هي أفضل مستشفيات العالم تعتمد عليهم، مع العلم أن التميز الطبي لا يقتصر على الإعداد العلمي فقط بل يشمل أيضًا ما يسمى بالأخلاق الطبية والممارسة المخلصة والحرص وتحمل المسؤولية. ولو قسنا ذلك على مخرجات جامعاتنا في المجالات الأخرى: الهندسة والحاسب والإعلام وغيرها لأدركنا أننا نملك ثروة بشرية تنتظر منا الاستثمار لتحقيق طفرة اقتصادية إنتاجية تسهم في دعم تطلعاتنا المستقبلية.
الأمر الآخر والذي قد يكون أهم من سابقه، هو كيف تسنى لكندا الحصول على خدمات أفضل الكوادر الطبية السعودية مجانًا؟ ونحن هنا لا نتكلم عن طبيب أو حتى عشرة أطباء، نحن نتكلم عن 1000 طبيب مؤهل. الجواب هو في التوسع في برامج بورد متميزة. واليوم تحار المستشفيات الكندية في كيفية دفع مرتبات من سيحلون مكان الأطباء السعوديين. فألف طبيب براتب 10 آلاف دولار على أقل تقدير يعني عشرة مليون دولار شهريًا، أي 120 مليون دولار سنويًا تدخل للنظام الصحي الكندي. هذا في كندا فقط! والسؤال الذي يتبادر للذهن هو: ألم يكن بإمكاننا التوسع في البورد السعودي والاحتفاظ بعمل هؤلاء الأطباء داخل مستشفيات المملكة، وحصر التدريب في الخارج على التخصصات الدقيقة والنادرة فقط؟ أو في أقل الأحوال جعل التدريب في البورد مناصفة بين الداخل والخارج ليستفيد النظام الصحي في المملكة من خدمات هؤلاء الأطباء؟ والحقيقة أنه يمكن نقل مثل هذا التدريب المكلف برمته للمملكة، فلدينا مستشفيات مزودة بأحدث التقنيات، وإن لم توجد مستشفيات كافية فالمبالغ الكبيرة التي تصرف على التدريب في الخارج لهذا العدد الكبير تكفي لاستحداث مثل هذه المستشفيات. ولدينا من الأساتذة والاستشاريين عدد كاف لتدريب خريجينا. كما أن طبيعة كندا تختلف عن طبيعة المملكة: إدارةً، ومناخًا، وأمراضا. ولذا يتعرض بعض الأطباء السعوديون فور عودتهم لصعوبات في التأقلم مجددًا، بل إن بعضهم بقي في البلدان التي ابتعثوا لها في كندا وغيرها ولم يعودوا.