د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
انتهى موسم حج هذا العام، ولله الحمد والمنة، على أفضل حال؛ لا أمراض، لا إصابات، ولا حوادث. عاد الحجاج لبلادهم غانمين سالمين، 250 ألف فرد من أجهزة الدولة المختلفة تولوا خدمة الحجيج، يقابلهم عدد كبير من الكشافة والمتطوعين، جاوز عدد الحجاج المليونين حاج، نسأل الله القدير العليم أن يتقبل حجهم وهديهم، 40 مليون متر مربع من المياه الثمينة جدًا ضخت للحجاج، وعشرات ملايين عبوات الماء وزعت عليهم مجاناً، تم إنشاء 25 مستشفى، و150 مركز رعاية أولية متنقل بسعة 5000 سرير، 180 سيارة إسعاف مع الألف الطواقم الطبية بما فيهم ممرضي العناية المركزة، وأطباء أخصائيين و300 استشاري.. هذه الأرقام ليست للتفاخر، فقد قدمت هذه المراكز 360 ألف لقاح شلل أطفال، و480 ألف لقاح إنفلونزا موسمية، وأجريت للحجاج 579 عملية قسطرة، و360 عملية قلب مفتوح، و2065 عملية غسيل كلى، و180 عملية تنظير للجهاز الهضمي، و12 حالة ولادة. هذا في القطاع الصحي فقط وقس عليه الأمور الأخرى كالأمن، والمواصلات، والتفويج، وتوفير الطعام، وذبائح الهدى الخ.. فلا غرابة إن غادر الحجاج شاكرين الله أولاً، وحكومة خادم الحرمين والشريفين ومسئوليها -بعد الله-، فحكومة هذا البلاد وشعبها يرون في خدمة الحرمين أهم الواجبات الدينية، ويرون في كرم الوفادة والضيافة أهم الواجبات الوطنية.. المملكة في مواسم الحج دولت إمكاناتها كافة وإمكانات شعبها لخدمة ضيوف الرحمن.
ورغم ذلك، وبعد هذا كله، ومن المضحك المبكي أن هناك بعض الأصوات المغرضة التي لا تهتم للحج ولا الحجيج وتريد فقط تسييس هذا الشعيرة المقدسة لدى المسلمين كافة، تطالب بتدويل الحرمين، أبعد هذا تدويل؟ كيف تطالبون بشيء ماثل للعيان أمامكم؟! الحج مدول وإمكانات المملكة جميعها مدولة في خدمة الحجيج من الدول كافة بشكل غير مسبوق في التاريخ، فلا يمنع أي حاج من أي دولة مهما كانت علاقاتها بالمملكة من أداء فريضته.. ما تريده هذه النفوس المريضة وتوسوس به هو تدويل السيادة السياسية على الحرمين، وهذا أمر مختلف تمامًا دونه رقاب جميع السعوديين والعرب والمسلمين معهم.. فلم توفر إمكانات للحج، بل لأي حج، عبر التاريخ والجغرافيا، وعبر الأديان والملل كما وفرت لحجاج البيت الحرام اليوم.
الغريب أن الهيئات الصحية الدولية وهيئات حقوق الإنسان تطالب بمساعدات دولية لإنقاذ عشرات آلاف المساكين في الأماكن المقدسة التي تقع تحت إشراف الدول التي تطالب بتدويل الحرمين.. المساكين من المغرر بهم في الأماكن المقدسة لهذه الدول التي تديرها عصابات وميلشيات يفتقدون لأبسط مقومات الحياة: مياهها ملوثة ورغم ذلك شبه معدومة، لا كهرباء ولا غذاء، حتى الناس أصبحت تشتكي من صعوبة العثور على ماء للوضوء، بل وأحيانًا للاستنجاء.
نفتخر بتدويل الحج، وبتسخير إمكاناتنا كافة التي نحن بأمس الحاجة لها لمواطني جميع الدول في العالم كافة، بما فيهم من يضمرون الشر لنا، ومن كان حجهم دائمًا لإفساد الحج وقتل الحجيج. ونفتخر بأنه فيما يتعلق بالحج ألغينا جميع الاعتبارات السياسية، فالحج بالنسبة لنا خارج هذه الحسابات. نفتخر بتحصين إخواننا المسلمين ضد الأمراض مهما كانت جنسيتهم، ونفتخر بفتح قلوبهم العامرة بالإيمان، وبتوليد ذريتهم الصالحة. نفتخر بذلك لأننا نؤمن بالحياة الآخرة ونحرص عليها كما نحرص على دنيانا. نريد فضل الله ونرتجي مرضاته، أما من في قلوبهم مرض فهم خارج حساباتنا.
إخوة لنا في الدين، نحبهم ونحرص عليهم نخونا لنجدتهم في الأماكن المقدسة التي تشرف عليها مباشرة وتقع تحت مسئوليتها بعض الغربان التي تنعق بالتدويل السياسي للحرمين. يطالبوننا بنجدتهم العاجلة بالماء والدواء والكهرباء. ونقول لهم أبشروا فيما لو سمح لنا بذلك، ولن نطالب بتدويل مقدساتكم التي هي أيضًا مقدسات لبعض مواطنينا، فقط أفسحوا لنا المجال لخدمتكم إخوة عرب ومسلمين، فالدين الإسلامي نزل للبشر كافة ورعاية الحرمين الشريفين في مفهومنا، تشمل رعاية جميع المسلمين الذي يولون وجوههم شطرهما حتى ولو اختلفوا معنا، هذا مفهومنا في التدويل.
ومن باب الإحاطة بالعلم فقط فالاستعدادات للحج المقبل قد بدأت من اليوم، وكما أشرف خادم الحرمين شخصيًا على خدمة الحجيج هذا العام، فهو يشرف أيضًا على جهود رعاية حج العام المقبل، ستقدم المملكة أنفس وأغلى ما تملك، من ماء وكلأ، من عتاد ورجال، وأهم من ذلك ملايين الصدور المفتوحة لحجاج العام المقبل.. المملكة دولتكم والسعودية وطنكم ما وطئت أقدامكم أرضها، حجاجًا ومعتمرين أو حتى زائرين.