د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
يوصف كل من يغش بخبث في أمر ما، حتى ولو غش في كلامه بأنه يدس السم في العسل، فمن يقول كلامًا معسولاً له مرام أخرى بعيدة عن معناه القريب يوصف بأنه يدس السم في العسل. فهذا التوصيف الخالد له عدة أبعاد وعدة دلالات. فالسم نقيض العسل هو يقتل والعسل يغذي. و قد يغلف طعم العسل اللذيذ سم هاريٍ يلتهمه المسموم بلذةٍ عن طيب خاطر فيقضي عليه.
وبما أن طعم العسل يطغي على ما يخالطه فمن الصعب كشف حالات غشه، فكثير من الناس تأكل سكر مذاب، أو أنواع مختلفة من الدبس، دبس ذرة، دبس رز ولا يمكنه اكتشاف مذاقها لامتزاجها بطعم العسل الحلو. وليس للعسل طعم واحد ثابت لأنه يعتمد في مذاقه وفي نكهته على طبيعة الأرض وفصيلة النحل وما يتغذى عليه. لذا فعلينا ألا نلوم أنفسنا كثيرًا إذا لم نكتشف أن العسل الذي نتعاطاه مغشوش. وتعوّد الناس في دول العالم الثالث على غش الأطعمة بمجملها بطرق مختلفة وليس العسل وحده. وقلة هي التي تسطيع شراء العسل، أو تتعاطاه بشكل مستمر، لذا لا يهم كثيراً في هذه الدول إذا أكل أطفالها عسل نقي مصفى أو سكر مذاب، المهم هو تغذية الطفل بأية أسلوب، لأن الطفل يعاني من سوء التغذية بصفة عامة. و بدانة الأطفال أكثر انتشاراً في بعض الدول النامية والفقيرة منها في الدول الغنية. غير أن الوضع مختلف جدًا في الدول المتقدمة حيث ينظر للسكاكر والأدباس على أنها سموم، والناس تخاف على أطفالها من البدانة، ولذا يعد خلط العسل بالسكر جريمة بحق المواطن، وعلى أنها دس للسم في العسل.
وقد قامت الدنيا ولم تقعد في أستراليا، أكبر منتج للعسل، وأكبر مصدر له بسبب اكتشاف حالات غش متفشية للعسل في الشركات الكبرى التي تكتب على عبواتها ضمانات بأن عسلها شهد صافي 100%. الضجة أثارتها الأمهات اللائي يستهلكن هذا العسل لأطفالهن قبل الدولة. فأستراليا كبقية دول العالم عانت من اشتداد حالات الجفاف والتصحر ومع ذلك ارتفع إنتاجها من العسل وانخفضت أسعاره وسط دهشة وشكوك جميع المختصين. فالمختبرات في أستراليا أجازت أنتاج الشركات الكبرى للعسل كشركة كابيلانو، المصدر الأكبر للعسل في العالم، على أنه عسل نقي. لكن المختبرات الألمانية والتي هي الأفضل في العالم، والوحيدة القادرة على التأكد من سلامة العسل كان لها رأي آخر، فقد أفصحت عن أن العسل الأسترالي مغشوش بدبس الأرز بأسلوب يصعب اكتشافه. ويرجح الخبراء أن أساليب غش العسل عالمياً تتطور بتطور المختبرات التي تحاول كشفها.
ولدهشة الجميع فقد أصرت شركة كابيلانو الضخمة، التي ارتفعت أسهمها وأرباحها في السنوات الأخيرة، على أن عسلها لا تخالطه شائبة و بأنها تثق بشركائها التي تشتري عسلها منهم، وهم شركاء في الصين، ولكن هذا النفي افصح لأول مرة عن أن الشركة تخلط عسلها بالصيني. و حسب مهتمين بشأن العسل فالصين لا تملك العدد الكافي من المناحل لإنتاج الكمية الهائلة التي تصدرها لكابيلانو وغيرها، لكنها قادرة على أن تغش العسل بدبس الرز بشكل لا تكتشفه مختبرات أستراليا والدول الأخرى.
غش العسل على ما يبدو ظاهرة قديمة، فعند زيارة عدد من رجال الأعمال السعوديين لأوكرانيا دهشوا عندما سمعوا أن معظم العسل الأوكراني يصدّر لليمن الجنوبي. فتسألوا كيف لبلد صغير فقير كاليمن أن يستهلك كل هذا العسل؟ فانتبهوا لكوننا نحن في المملكة أكبر مستورد للعسل من اليمن الجنوبي، نستورده على أنه عسل سدر من أودية اليمن. فبعض اليمنيين يستورد العسل الأوكراني في براميل كبيرة بأخو البلاش ويصدره لنا في قدور صغيرة بسعر 500 ريال للكيلو وكأنه عسل طبيعي من أنتاج مناحل متفرقة. وبما أن كثير منا يعتقد أن عسل الطلح والسدر فيه دواء وشفاء فعسل اليمن يلاقي رواجًا كبيرًا لدينا. وطبيعي ألا يكون العسل الأوكراني أفضل من الأسترالي، لكن أحدًا لم يرسله لألمانيا لاختباره.
الثقة لدى الجميع، والكاتب أحدهم، كانت شبه كاملة في معايير ومواصفات المنتجات الأسترالية، ولكن بعد هذه الفضيحة المدوية لأحد أكبر شركاتها، سيحل القلق الدائم محل الثقة عند شراء إي منتج من أستراليا وغيرها. فالجميع على ما يبدو يغش ولكن بعض الدول المتقدمة أقدر على إخفاء غشها. وتبقى حقيقة واحدة وهي أن مختبرات ألمانيا تستحق أي سعر يدفع فيها.