سعد بن عبدالقادر القويعي
مع خيوط الفجر الأولى من صباح يوم الأربعاء -العاشر من شهر رمضان 1437 هـ-، توقفت الساعة بدون عقاربها في منتصف القلب؛ ليغادرنا إلى الرفيق الأعلى -الشيخ الوقور- حسين بن عبدالكريم بن حمد الحسين، بعد أن توقف جسده الكبير عن الحركة، وارتسمت حياته أمامه، كما الدفتر حين يوشك صفحاته على النهاية بهدوئه، وصمته، وبصباحاته، ومساءاته؛ وكأنها -في نهاية المطاف- تحكي حوار الروح مع القلب، واختلاط الأمنيات مع الذكريات.
لم نكن على موعد مع هذا الرّحيل الهادئ؛ لكنه غادرنا بعد أن حوّل طعم شظف الحياة، الذي ذاق مرارته إلى مذاق حلو الطّعم؛ فسكن القلوب، والمشاعر بحسن حديثه، وطيب أخلاقه، ولين معشره، ورائق مزاجه، وسعة صدره، وكبير تواضعه، وفائق أناته، وجمال بسمته، التي لم تفارق محياه إلى أن أسلم روحه إلى بارئها.
كان أنيقا في منطقه، ومعاشرته، نبيلا في أخلاقه، وسلوكه، بارع الحس، فارع الشعور، رحيماً رؤوفاً بأبنائه، واصلاً لأرحامه، بل إن نسيت فلا أنسى ابتسامته العريضة، التي كانت لا تفارق محياه؛ حتى في مرضه الذي امتحن، وابتلي به -في آخر أيامه-؛ فرغم ضحكته المكتومة، ودمعته المدارية، إلا أنه كان متفائلاً بعطاء ربه، ووعده، فلم يكترث بكم الأحزان التي داهمته سريعاً، وتركت في خياله ندوبها التي لا تمحى.
أيها الشيخ الكبير، إنني أجد بياض الصفحة أمام مقلتيّ مخوفاً عندما تذبل كتابات الحزن أوراقي، وتتدثر بالسواد، وتتوشح أحرفه بالحزن الأليم ؛ لأنها لا تبقى سوى الإضافة، ولا يعلق بذهن المتلقي سوى الجمال؛ ولأنني أكتب بدمعي أسفاً على رحيل من زهد في دنياه؛ كونه اختار ما عند الله ؛ لأنه خير، وأبقى، وأراح النّاس في حياته، وبعد مماته.
أبا إبراهيم، في سفر طويل لن تكفيك الحروف -كلها- ؛ لننعاك، ففي العالم الآخر حياة لم نعشها بعد، وميلاد لم يأت بعد، فلئن تركت مساحة من الزّمن لفصل آخر، فإن ما يعزينا حين نودع الفصل الأجمل من صفحتك البيضاء بطهرها، ونقائها، فلك الرحمة، ولنا اجترار ما وهبته لصافي الإحساس من خلود، ثم لذريتك الحاضرة، التي تزكو بعبقها، وتتناسل بأثرها.
يا من تركنا بلا عودة، ولا أمل بالرجعة إلينا؛ لأن غيبة الموت باتت تحت الثرى، فإن أعيننا لتدمع، وإن قلوبنا لتحزن، وإنا على فراقك يا أبا إبراهيم لمحزونون؛ ولأنني لا أملك سوى أن أحوّل مشاعر الحب المتغلغلة في قلبي، والمختلجة في نفسي إلى دعوات أرفعها لرب السموات، والأرضين؛ فاللهم لا نزكيه عليك؛ ولكنا نحسب أنه آمن، وعمل صالحاً؛ فنّور مرقده، وعطّر مشهده، وطيّب مضجعه، وآنس وحشته، وارحم غُربته، ونفِّس كُربته، واجعل أعماله ترجح في الميزان، وأغدق عليه شآبيب الرحمة، والغفران.