أمل بنت فهد
في قاعة المحكمة.. تمشي السيدة «تفاني» لأول مرة في مشوار الرفض.. هادئة لا يعتريها الخوف القديم من النفي.. واللا حب.. واللا تقدير.. لأول مرة تقرر أن تهدم كل رجاء كان يجبرها على الصبر.. تحرياً للحب.. أو انتظار لحنان.. لأول مرة تفهم سر انحناء همتها تحت وطأة الرغبات المتراكمة دون تحقق.. لأول مرة تدرك أن النهاية بداية.. لأول مرة تعرف أن صالح وخيرة.. وخرفات الصبر.. سرقتها من أحلامها على أمل انتظار المعجزات.. وأدركت أخيراً أن المعجزة إنسان يعرف ماذا يريد.. ويتجه إليه مهما كان الثمن.
تفاني كانت طفلة محصورة في تربية الحب المشروط.. تأخذ الحب مقابل الطاعة.. تأخذ الاحتواء مقابل كبح طفولتها لتكون الطفلة الأفضل.. لتشرّف والديها في المجالس.. وتمنحهم نوط التربية الصالحة!
تفاني المراهقة لم تعرف نزق المراهقة.. ولا جنون التفكير بعد الفعل.. ولم تأخذ كتاباً ممنوعاً من تحت الطاولة.. بل كانت تقرأ ما تسمح به تربيتها الصارمة.. تخطت المراهقة دون مراهقة.. وصفقت لها عائلتها.. تتويج كانت فيه آخر من فهم أنها فعلت ذلك من أجلهم وليس من قناعة.. كانت تتحرك وتترقب الرضا في عيونهم.. تبحث عن ذات الإحساس الذي كان يعتريها حين كانت طفلة.. وكم وجدت أنه يشبهه.. لكن يصاحبه جوع لم تعد تشبعه كلمات الثناء.. ولا وابل الصفات التي تمطرها به أمهات العرسان وهن يخطبن ودها.
تزوجت تفاني.. وبقيت متفانية لا تصدر منها أوّاه مهما سُحقت تحت التجاهل.. زوجة مطيعة حد التلاشي.. وأم كالجسر المتين.. يمر عليه الأبناء والزوج دونما انتباه.. فمن يأبه لموضع قدمه إذا كان حذاءه مريحاً!
كان كل شيء يبدو في مكانه.. حياة بخير وهادئة هدوء المقابر.. لكن تفاني ليست بخير.. رغم أنها تقدم ما يفوق طاقتها لأبنائها.. وتتعامل مع زوجها كأم مستعدة للمغفرة قبل حدوث الخطأ.. كانت موافقة دائماً.. ونعما لا تصارع لاءها قبل نطقها.. وبرغم كل تلك الطاعة.. وكل تلك الأمومة التي تقدم ما تقدمه خادمة نشيطة.. إلا أن الفرق أنها مجانية.. برغم ذاك كله..
خانها زوجها.. عقها أبناؤها.. !
كانت إلى زمن قريب تظنه امتحان السماء للعباد المحبوبين.. وأحياناً تظنه شؤم ذنب منسي يستحق التوبة.. وأحياناً يقولون لها إنها عين «لم تذكر الله» أو سحر ساحر.. لكن أحداً لم يخبرها الحقيقة كاملة حتى تعثرت بها في مكان غريب..
عرفت أنها تتسول الحب بعطاء دون حساب.. عرفت أن الحب المشروط بالطاعة ليس حباً إنما استغلال.. عرفت أنها كانت مملة.. عرفت أن الاهتمام الزائد خانق جداً.. عرفت أن الحياة أكثر من انتظار الحب.
تفاني بحثت عن أحلامها.. لأنها بقيت الوحيدة مع وحدتها.. وكل فرد في البيت مضى إلى حلم يناديه.. تفاني قررت أن تتعرف من جديد على نفسها.. وتمنحها لأول مرة الاحتواء.. وإمكانية الخطأ والتصحيح.. فكم تفاني تعرفون؟ وكم تفاني أدركت نفسها قبل أن تفنى؟