يوسف المحيميد
حينما قال الشيخ صالح المغامسي: «الله تعالى قال لهو الحديث، أي كلام، فالمعازف هنا ليس لها ذكر، فالمعازف لا تسمى حديثاً، وأنا أتكلم عن الموسيقى، وليس الغناء» كان قد أعلن عن بدء جولة جديدة من الصراع المرير على مدى ما يزيد عن نصف قرن حول حرمة الموسيقى والغناء، تسببت في إتلاف الآلات الموسيقية، وملاحقة العازفين على الأرصفة، وتبديل أشرطة الكاسيت المغناة بأشرطة الأناشيد الإسلامية، من غير أي آلة موسيقية، ومن ثم نشأة أجيال وأجيال ممن كانت طفولتهم محفوفة بتحريم الموسيقى والصور!
والصور أيضًا كانت حكاية أخرى في مجتمعنا، فمن احتفظ بذاكرة عائلته زمن الستينات والسبعينات من القرن الماضي، في صور جميلة بالأبيض والأسود، داهمته عواصف التحريم والتنطع بالدِّين، خلال فترة الثمانينات، فتبرأ منها كلها، بإحراقها، ليحرق عائلته كاملة على المستوى الرمزي، ويتحول بها من عائلة طبيعية، محبة، متفائلة، بسيطة للغاية، إلى عائلة غير طبيعية، متشككة، تؤمن بأن الأصل في الأشياء هو التحريم، وليس العكس.
يبقى التساؤل هل كان هذا الأمر يتم على المستوى المجتمعي فحسب، أم على المستوى الرسمي أيضًا؟ كان للأسف يحدث أيضًا على المستوى الرسمي، خاصة في مرحلة ما بعد 1979، حينما تحولت الحياة الحرة السمحة، إلى حياة أخرى، يحيط بها الحظر والتهديد والخوف، فلا تظهر المرأة على شاشات قناتنا الرسمية الوحيدة، ولا في صحفنا المحلية، ولا يبث فيها الأغاني والموسيقى، وبالطبع تم منع الحفلات الغنائية التي كانت تقام لفنانين سعوديين وعرب في الرياض وجدة وحائل وغيرها، بعضها مسجل للتلفزيون، وبعضها تسرب لليوتيوب، لدرجة أن الشباب من الجيل الجديد، لا يصدق أن الحياة كانت هنا، وليست هناك!
وليت الأمر توقف عند هذا الحد، بل حتى في التسعينات، حينما انفتح الفضاء رغماً عنا، بأقماره الصناعية المضيئة، ليخرجنا من انغلاقنا وحصارنا في بيوت مسورة، لا شيء فيها سوى قناتين محليتين، فتهافت الناس بحثا عن الهواء، ومع ذلك حوصر من وضع طبقاً لاقطاً في منزله، لمعرفة أحوال العالم، واتُهم في دينه وشرفه، قبل أن يتحول المتهمون إلى نجوم في هذه القنوات التي يشتمونها ليل نهار... حتى انفتحت السماء بهذه الشبكة العنكبوتيات نهاية التسعينات، ولم يبق شيئاً مخفياً وممنوعاً، لا في صحف العالم، ولا في كتبه، وموسيقاه وأفلامه ... إلخ.
من هذه التجارب، علينا أن نفهم أن رياح التغيير التي تهب على العالم، ستهب علينا بوصفنا جزءاً من هذا العالم، وستطال كل شيء، حتى الخطاب الديني نفسه، سيتغير، وسيصبح أكثر عمقاً وجدَّة، وما هذه الرؤية المستنيرة للشيخ المغامسي تجاه تفسير «لهو الحديث» إلا بداية واعية لرؤى مستنيرة، وقراءة جديدة للنص القرآني، نحن بحاجة ماسة لها، وفي جميع أوجه الحياة، التي تمس مجتمعنا، وتعيد الحياة إليه.