يوسف المحيميد
كلما اقتربت المجتمعات من الحضارة والمدنية، توثقت صلتها بالفنون والآداب، وعلى العكس، المجتمعات غير المدنية، وغير المتحضرة، تهمش الفنون على المستوى الرسمي، وتسخر منها على المستوى المجتمعي، فلا شيء يدعو للغرابة أن يوجد هناك من يتأذى سمعه من الموسيقى عموما، حتى لو كانت موسيقى وجدانية، هادئة، وبعيدة عن الصخب، ولا غرابة أن يوجد هناك من هو مصاب بعمى في ذائقته البصرية، فلا يشعر بفتنة زرقة شاغال، ولا ذهب كليمت الأصفر، ولا تدرجات بول كلي اللونية، وتشترك هاتان الحاستان معًا في تذوق الأعمال المرئية، صوتا وصورة، فمثلا رغم جمال وبراعة رواية «حياة باي» ليان مارتل، التي أصبحت فيلما، استثمر جمال الدراما العالية في الرواية، إلا أن الصورة المرئية البديعة، الحاصلة على جائزة أفضل صورة، تجعل المتلقي الذي يمتلك حاسة سمعية وبصرية جيدة، يستمتع أكثر بمثل هذا العمل المرئي وغيره من الأعمال المرئية، ذات الصورة السينمائية والموسيقى التصويرية الجيدة، على مدار تاريخ السينما العالمية.
قد يتساءل القارئ كيف نربي ذائقتنا البصرية والسمعية؟ كيف ندربها على التّذوق البصري والسمعي؟ كيف نجعلها تميز بين الصفاء والتلوث البصري؟ بين عذوبة الموسيقى وتهذيبها للنفس، وبين جنونها وتدميرها للعقل؟ حتما اختيارات الطفولة المبكرة لها دور في نمو الذائقة وتطورها، وتربية الأسرة والمدرسة تؤثر مباشرة على مستوى الذائقة، لينعكس ذلك على سلوك الشخصية ومدى استقرارها، أو عدم استقرارها، وبالتالي على نجاحها وفشلها.
هذه الموسيقى التي يسخر البعض منها، وتستخف بها المجتمعات المتخلفة، قد تستخدم في الطب النفسي، وفي العمليات الجراحية، وقد تستخدم في الحروب والقتل، ليس ذلك فحسب، وإنما قد تؤثر الموسيقى أحيانا في شخصيات الأفراد وسلوكهم، فمثلا من يستمع لموسيقى الهيب هوب، يصبح أكثر عنفا من غيره، وأكثر استعدادًا لارتكاب الجرائم، بينما من يستمع للموسيقى الوجدانية الهادئة يصبح أكثر وحدة وعزلة وهدوءًا.
وفي كثير من هذه المجتمعات التي لا تنصت للموسيقى، التي خلقها الله بدءًا في الطبيعة، في صوت المطر وحفيف الشجر وتغريد الطير، ولا تمنحها المكانة التي تستحقها، ولا تدرجها في مقررات التعليم العام والجامعي، ولا تفسح لها المعاهد والمراكز المتخصصة لتعليمها وتذوقها، لابد أن تجني ذلك في مجتمع سطحي، مجتمع حاد، متطرف الفكر والرؤية، لا يقيم للجمال قيمة ووزنا، ولا ينعكس ذلك على طبيعته، ليكون أكثر شفافية وتسامحًا، أكثر استعدادًا للمعرفة والاكتشاف والتماهي مع الثقافات الأخرى، أكثر تفهمًا وتقبلا للآخر.