سعد البواردي
- حاتم بن أحمد الجديبا
- 79 صفحة من القطع المتوسط
إذا كان شاعرنا يشتكي حظه فهو محظوظ.. المهم ألا يشتكيه حظه فيقع تحت طائلة المساءلة.. ديوان صغير الصفحات.. كبير المساحات يأخذك إلى حيث ترى محطات رحلته مزروعة تارة بالأشواق وأخرى بالأشواك.. غير مكترث أيها يأخذه بناصيته.. إنهما يلتقيان كجدولين في مصب واحد.. الفرح لديه أقوى صوتاً من الجرح.. كان في صحبته يغني:
الآن يطوي ظله الكدر
وتشيخ أحزاني وتنتحر
وأفر من نوم الكآبة إذ
أستنشق البشرى وانبهر
كيف عبر عن فرحه.. وبأية أدوات تسيّد الحفل.. أنغامه رقصت.. لوحته سمت تحت ظل النخيل.. المطر والعطر كلاهما انتشى مشاركة في فرحه.. عاد طفلاً وسيماً تتبختر الأشعار والصور، هكذا حكى شاعرنا وعلى وعد منه بإعادة ترتيب مشاعره.. ألا يضجر.. السعادة صحبة أفراح.. وليال ملاح.
يأخذنا إلى حيث لا ندري.. ولا أنت تدري.. هو وحده الذي يدري بعد أن خطط ملامح سيره:
تمهل.. تمهل.. أرى العشق فهلا
يروق إلى سيلان الحنين على شفتيه
ودمعته.. شعور خجول بديع فريد
تدفأ تحت العيون
تمهل.. تمهل
ما زلنا سوياً معه متمهلين نطبع خطواتنا في تؤدة، نبحث إلى أين يأخذنا شاعرنا الجديبا، فلا الصبح يدري ولا أنت تدري.. أعادها للمرة الثانية كي يقربنا من الفهم.. ويدنينا من مشهد الصورة الشعرية..
بأنا سلكنا مسارين منسجمين وراء الغمام
نحك الورود بأعماقنا..
ثم نمضي ونسمع أنغام ناي
ونرسم في صفحة الجو ذكرى
هكذا تكون الأحلام متقاطعة أحياناً.. متباينة أخرى.. وفق ما يمليه مزاج الشاعر حتى ولو احتاج إلى عسف.. الهيام والافتنان بالحالة الشعورية تجسد لنا عالماً رحباً من الأخيلة الجميلة الضباب. الروابي. السحاب. العطور. الحب المرتعش.. النجوم وهي تنادي الشمس وتناجيها.. كي تستريح من الدوران:
ففي كل ليل تغيب تغيب
وفي كل فجر تعود تعود
إنها الشمس كما قال شاعرنا تعطي الحياة مذاقاً جديداً.. المهم ألا تصاب رؤوسنا بضربتها الحارة فنندم..
نتجاوز مقطوعته الشعرية «غيوم تضمنا» و»أين ذاتي» حتى لا ندور في نفس الفلك الجميل الذي يسبح فيه شاعرنا وبلذة مغدقة عبر عنها بهذا المقطع الوجداني:
أمازحها أداعبها كفص
تدلى من جنان العاطفات
أدغدغها فتهوي فوق صدري
ونسري في فضاء الأمنيات
لا شعر بعد الصور.. الستر في لغة الحب واجب
رفيق رحلتنا الجميل حاتم الجديبا يمشي ويسترجع.. هكذا جاء العنوان.. ونحن برفقته نمشي ولا نسترجع..
لا أحد يكشف غيره ملامح الصورة القادمة:
حاولت. حاولت حتى مات إصراري
وطار عصفور حظي عكس تياري
تثاءب النحل في أزهار مملكتي
ونام في غرفتي شيطان أشعاري
ملامح سوداوية للمشهد. شاعرنا سقى نضارته ريق الضياع. كاد لا يبصر.. يداه في جيب أوجاعه.. غير قادر على كتم أخباره.. تحول إلى أسير ضياع لا هدف. ولا وعد.. ولا أمل بعد حلم طفولي جميل كان يدغدغ عواطفه عصفت به عوادي الزمن.. يتصور المشهد:
هنا التقينا كأطفال الربيع هنا
تبخرت مع أنفاسي. وسيجاري
أمشي وأسترجع الماضي وأمضغه
أدندن الآه. عفواً ضاع مزماري
إنه الشاعر الذي يستهويه بشعره تذوق كل أطباق المائدة.. لا يستقر عند طعام واحد..
إنه يقول ما لا يفعل.. وأحياناً مذاقه مجرد خيال داعبه ذات لحظة وأملى عليه قصائد شعره.
هذه المرة انتهج طريقاً جديداً لا يأس فيه ولا بؤس معه.. منذ البداية علق ثوب الهدوم على حبل صبره بعد أن غسله من كل أوضار الهم والغم.
نسيت اشتعال الجروح بأمسي
وصادفت قلبي يغني على فرحة الانتهاء
ملتحفاً برداء التفاؤل والكبرياء
ضحكت انشراحاً. وقلد ضوء الصباح ابتسامي
وخالطه روحي بلون الصفاء
لقد صار شيئاً جديداً يحمل حكمة الشيخ.. وتجربة الحكيم.. وواقعية الإنسان وهو يقرأ ما بين سطور حياته.
محطات عشق مررت بها وتجاوزتها هي «حيرة فتاة» و»رقص على النيل» و»ياطفلة الشام» لأن المساحة المتاحة لا تسمح.
أقف هذه المرة عند القصيدة التي تحمل عنوان الديوان «حظي أشتكي حظي» وأقرأ:
ثلج تدلى من شفاه المنام
يطفو على أوردتي باحترام
دفنت في ريح الأسى صرختي
فأنبتت قهراً كلون الظلام
ضيقت خصر الليل حتى اختفى
علمت ألحان الغصون الكلام
شيء جديد لم نألفه بهذه الشكوى المرة فتح شاعرنا قلبه المسكون بآهاته وتأوهاته.. يندب حظه.. ويشتكي نصيبه.. وما يصيبه من دموع ووجع..
نفس الصورة المعادة لصراعه مع فتاة أحلامه.. وكيويد شعره.. وعلى أمل قد لا يتحقق. إنه يناديها:
يا بنت جي. فرصة الشوق ان
يعصر في الأشعار أخرى هيام
فأقبلت أرواحنا وارتقت
برج الأثير الناعس المستهام
كل هذا جميل ينم عن وفاء ما زالت جذوره وفية وحية.. ولكن ما الذي تغير؟!
لكن فانوس الهوى انطفى
من حملتها ذاب ربيع الوئام
هم خبؤونا في شذى قبلة
حامضة. شاب غنام الحمام
آه هديل الهم يصطاد في
دمي صباحا من فضول الغرام
لا تسألوا عن غدنا.. يومنا
فحم كغربان الصدى.. والختام
لن نسأل بعد هذا.. والسلام مسك الختام.