سعد البواردي
عبدالقادر بن عبدالحي كمال
72 صفحة من القطع الكبير
أكثر من شمس واحدة شاء لها شاعرنا أن ترحل.. ليته أبقى لنا ولو شمساً واحدة تزدان بها سماءنا المعتمة بكل ظلامها.. وظلامييها..
أما وقد سبق السيف العذل.. وقد اختاره لا أجد ما أقوله أكثر من هذه العبارة.
لعل له عذراً وأنت تلومه..
بداية بنبض قلبه.. حيث يقول:
رسمت لكم نبض قلبي وروحي
وبوحي وإحساسي المرهف
وعطرته بنيل المعاني
ولوّنته بدمي المرعف
بين عطرك.. ولون الدم مفارقة غريبة.. غير مستساغة مستفزة لكل الألوان الوردية..
أضمخ قافيتي بالسنا
وارسلها للصديق الوفي
لينهل من نبعها ريقها
ويرشف منه ولا يكتفي
أقول تأمل أخي مارسمت
وعرّج على روضها واسطف
إلى شريكة حياته بثها مناجاته..
أبثكِ شعري وألحانيه
وفيض شعوري ووجدانيه
ونبضات قلبي ودفق حنيني
وأطياف ليلي واحلاميه
أطياف الليل يا عزيزي تحتمل كل المشاهد بما فيها المفزع.. ليتك أبدلت ليلي بحبي..
يسترسل في شدوه الجميل قائلاً:
وذقت من الوصل عذباً فراتاً
وروّيت قافيتي الصادية
سكبت بأحرفها رقةً
ووشيت بحري والقافية
بكل هذا البوح الشهي غنت تباشير صبحه الجديد في ترجيع له إيقاع الحياة ووقعها
كيف لا وقد أخذه الشوق إليها أشبه بغريب عاد إليها بعد رحلة طالت خشي عليها ومنها أن لا تعود.
(بعض ميّت) يعني بعض حي.. كلاهما له وجه آخر.. ترى أي واحد منهما اختار؟!
أما أنا فقد ارعويت
من بعد جهلي واهتديت
وعرفت أن الشيب منهاة
فقلت له (انتهيت)
أدركت أن جهالتي
من غفلتي ستقول (هيت)
وبأن شمسي قد دنت
نحو المغيب.. وما انتهيت
لعله استكثر على عمره أن يبقى حياً بعد شيخوخته.. أن يستعيد شبابه وعشقه.. وذكرياته.. مجموعة ذكرياته التي لا تعود..
أبحر في بحر الغزل بعد أن أسلم قلبه للمليحة التي أسرته برجع حديثها.. وسحر عيونها
ورأيت إني في الهوى
انقاد طوعاً وارتضيت
وراح يبثها في حنين متأخر أشواقه وأشواكه.. لم تأخذه الصبوة ولا النشوة طويلاً.. الصحوة كانت الأقرب..
ووجدت أني حالم
ومن السلافة ما ارتويت
وعرفت أن العمر ير
دعني فعفوك أن أبيت
عذراً إليك فإنني
ميت وإلا بعض ميت
كثيرون غيرك يا شاعرنا يحلمون بغير الممكن.. يصطدمون بالواقع، حيث تحتضر الأمنيات بعد أن تهرم وتهزم.. حتى ولو كانت (لقرة عين).
مع (مليكة عرش الحسن) غنى ناشد مالكة قلبه أن تسكب لظاها.. أن لا تبخل بهجرانه.. إنه في موقف المتحدي الذي ما يلبث أن يرفع رايته البيضاء فيما يشبه الاستسلام.
هكذا كانت حالة شاعرنا وهو يتساءل:
ألم ينصِّبك عرش الحسن أيكته
وقلّدوك بأنواط وتيجان
أخذت من ألق النجمات رونقها
بريقها طالما في الموقد عناني
وماذا بعد؟ لا شيء أرادها أن لا تبخل بهجرانه.. بدلاً من أن لا تبخل بوصلة وعنوانه.. ومع هذا أزداد استغراقاً وغرقاً في توصيفها.. إلى حد قوله:
فهللوا أن رأيتم نور طلته
وسبحوا بالعظيم الخالق الباني
هكذا الحب بقدر ما يكوي يزداد اشتعالاً في وجدان الجانب الأضعف..
رحيل الشموس. بيت القصيد.. لماذا رحلت؟ وكيف؟ ومتى؟ ولماذا؟
غابت شموسك ما للنور يرتحل؟ ولم تعد همسات الود تتصل؟
الليل يضرب أطنابه السوداء.. فلا ضوء.. علامات الاستفهام تتلاحق.. من المسؤول.. هل هو الصبح العاجز عن الظهور؟ وراح يبحث:
سريت أبحث في أعماق ذاكرتي
ألملم الضوء لكن هاضني الخجل
ولم أجد في حكاياتي سوى قصص
عاشت على أمل واغتالها الأجل
وبدوري لم أجد ما يغري بالبحث عن رحيل شموسه أكثر من أنها صورة واحدة لشمس واحدة لا علاقة لها بشمس السماء.. ودعها بقوله:
أقول يا وردة الصحراء معذرة
ما عاقني عنك لا حزن ولا حيل
لكنها لم تعد تصغي كعادتها
ولم تعد للقا تهفو وتحتفل
وهكذا الغيد لا تصفو مشاعرهم
كأنما حكموا بالدِّل واشتعلوا
ولست آسى إذا أشواقهم غربت
ما حيلتي أن هموا عن جنتي رحلوا
ما عليك يا شاعرنا الجميل لقد أديت ما عليك وأكثر هكذا الفاتنات.. وهكذا حكاية المفتونين بهن.. أتجاوز بعضاً من مقطوعاته و(وداعية).. و(رشقة).. (إشراقة الحضور) إعلان الخضوع.. وكلها تتحدث عن الوجد وسنينه وشجونه..
(الدمع الثمين) استوقفني بعنوان:
ذرفت دمعة وند أنين
وبدت لوعة وفاض حنين
امسحي دمعك الحزن حرام
يغرق الوردَ فيك دمع حزين
كفكفي الدمع كل شيء يهون
إن دمعها يسيل منك ثمين
إن للورد في محيّاك حقاً
ولو جناتك الورود تزين
ماذا بيد الباكية الحزينة كي تمسح دمعها.. دعها تبكي الدموع تخفف إن لم أقل تجفف منابع الحزن..
أخيراً مع «الرسالة الأخيرة» اجتزئ منها بعض الأبيات:
قفي أحدثك لا لوم ولا صخب
ولا عتاب ولا عذل ولا غضب
مالي إليك حقوق استعين بها
ولا تجمعنا القربى ولا النسب
دعي جراحي أطويها على دخن
ما عاد يسعفها طب ولا رأب
دعي جراحي فقد أدمنت نكأتها
الجرح ينزف والأفكار تضطرب
ما عليك يا شاعرنا بشعرك الجميل المتمرد فيه.. حتى ذلك المتجرد من قيد الصنعة.. لقد أعطيت شعراً يجمع بين العذوبة والعذاب.. وهكذا الشعر في طرحه فرح، وجرح.. وهكذا أعطيت.