سعد البواردي
سعد بن عبدالله الغريبي
شاعرنا الغريبي لم يعد غريباً على ساحتنا الشعرية.. سبق له أن قدّم لنا ديوانه «أسفاً أموت» لم يمت عطاء.. وها هو يُثني بديوانه الثاني «مداد من غيوم» وهو رغم غيومه في عنوان لم يفتقد المداد الذي يرسم به لوحاته الشعرية المتعددة الألوان والمذاق..
ماذا عنه؟! وعن نبشه للسطور من خلال قراءة متأملة غير عابرة كما يتحدث بداية بالأغبياء بدأ:
يا صديقي. أنا مثلك
أكتب الشعر.. ولكن:
لا أعي حين أكتب بمداد من دمي..
وعيك يخاصمك... دون وعي بقلمك.. أو دمك.. أو بفمك لن تكون إنساناً.. ولا شيئاً في رصيدك يحسب لك.. وإنما تحاسب عليه.. لنقرأ منه ما يشبه الاعتذار.. وهو يتساءل مع نفسه فيما يشبه الحيرة اللذيذة:
كم سكبنا الشعر كالصهباء كؤوساً مترعات
وعرفناه لحونا.. عذبة كالأمنيات.
وغفونا.. مثلما الأطفال راحو في سبات..
وتبادلنا أحاديث الغرام
أينها الآن؟ يا لها من ذكريات!
يريد أن يوحي لنا بغربة أشبه ما تكون بالغباء على حد قوله.. وما هي بغربة.. وإنما حضور دفين داخل نفسه يحسه ويلمسه بمشاعره أشبه بالحلم الذي ما إن يُطل حتى يُقل من ظهوره في مداعبة وجدانية تلازم كل شاعر.. لأنها مشاعره يريد استنطاقها إن أمكن إلى ذلك سبيلاً..
أتجاوز البحر الذي يرتاح إليه.. ويرتاع منه.. وسميره التي يداعبها وتلاعبه بين مد وجزر. وشوق وخوف.. ومثلها العاشقة الخجولة التي أعطى لها صك البراءة:
ما أنتِ يا صغيرتي مجرمة أو فاسقة
ولا الهوى خطيئته لكل خيم ماحقة
أتحفظ على مفردة (ماحقة) لصلفها.. وعنفها.. الأنسب (دافعة)..
مع خياله المصاب بالجنون نغمة تجمع بين الخيال والخبال.. يقول:
تخيلي حبيبتي
من ذا الذي بوسعه أن يمنع الخيال
تخيلي.. بأننا صرنا معاً في جنة لوحدنا
وليس فيها غيرنا..
لا شمس فيها لا ظلال
أو نجوما. أو كواكبا. ولا أنهار نرتوي من مائها
ولا جبال. أو تلال.. ولا نبات. أو رمال
ماذا أبقيت؟! مجازفة هذا التخيل لن تستطيع معه أمراً لأنك في حكم المحال الغيبي الغبي!
يلتقط الرزنامة من مكتبه.. يتصفح أوراقها:
يوم. يومان. ثلاثة أيام. أسبوع
شهر. شهران. عام عامان
عشرة أعوام. عشروناً
وأنا كالآلة أحسب هذي الأرقام
كلنا نحسبها من قبلك. ومعك. ومن بعدك لأنها شريطة عمر يبدأ بولادة.. وينتهي إلى شقاوة أو سعادة.. ماذا وجدت في رصيد أيامك وأعوامك؟
لا أدري إن كانت شيئاً حسياً. أو أوهام
أقول ما قال الشاعر:
إذا كنت لا تدري فتلك مصيبة
وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
أعمارنا أعمالنا.. نواجهها بإرادة متى كان إحساسنا بالحياة ان نكون أو لا نكون.. أما المعاناة فهي قدر يجب أن نتعامل معه باقتدار الصابر القادر على اجتيازه إن أمكن..
كل من لاقيت يشكو دهره
ليت شعري هذه الدنيا لمن؟
نعود مع شاعرنا إلى (العودة)
في الماضي كانت أغلى آمالي
ان أصبح إنساناً لا مسؤول
تملأ محفظتي أوراق نقدية
ودفتر شيكات.
وشهادة تطعيم محبة
ماذا عن الآن؟
والآن وقد جربت
وجدت بأن العودة أجدى
وان بلادي أحلى. وأغلى
أدركت بأن أماني الأولى
كانت شيئاً لا معقول..
أحرقت جوازي. وشهادة تطعيمي الصحية
أدرجت اسمي في القائمة السوداء
أراد شاعرنا الغريبي أن يبرأ.. أن يفك علاقته بالمادة إذا ما كانت خياراً بين التصاقه بوطنه وخدمة وطنه.. وبين أن يكون مبتزاً.. مرتشياً.. وفاسداً.. لا انتماء له.. ولا خير فيه.. ليكن؟! أتجاوز المسيرة الذهبية. واللقاء المرتقب. وأتوقف أخيراً مع «اللعبة والحجر»..
لم تفارق أبداً ذاكرتي.
صورة قاتمة..
إنها صورة طفل متعب
يتهاوى دمعه من مقلتيه
ويداه ضمتا لعبته..
وسلاحاً يحكي لنا فرصته
حكاية طفل شريد عن أرضه هاجسه الخوف أن لا يعود إلى بيته وقد احتله الغاصب بحق القوة، لا بقوة الحق.. ليس وحده من يعاني.. ملايين مثله يقبعون في خيام ممزقة تعصف بها الرياح.. والبرد. والمطر..
ساحات الضياء أصبحت أرضاً يبابا
بعد أن كانت مروجا زاهرة..
تحولت إلى أنقاض تبكي من بناها.. مشهد مروع نقرأه. نشهده في أكثر من موقع يجسد مأساة بشر ذنبهم أنهم ضعفاء لا يملكون القدرة على مواجهة الأعداء.
الديوان له بقية قادمة.