سعد البواردي
* 126 صفحة من القطع المتوسط
نصف مساحة ديوان قطعناها معه.. ونصف مسافة رحلتنا وإياه أنجزناها.. بقي النصف الثاني من كأس شعره.. ماذا عن نصفه المملوء أو الفارغ وفق قراءة متأنية اجتهادية تعرض ولا تفرض..
شاعرنا أشعرنا بملء مداده أنه لن يرحل.. فهل رحل ولو شعرياً؟
ليس في الإمكان أن أبقى طويلا
مع أني لا أطيق الافتراق
فظروف العيش صارت مستحيلة لا تطاق
ذكرنا بما يجري من حولنا على أرض الرافدين وسوريا. ولبنان. وليبيا.. ملايين المهاجرون عن أوطانهم بحثاً عن طوق نجاة ينقذهم من أدوات الموت. ناهيك عن أداة الجوع والظمأ والغربة إن أمكن.. هكذا تصورت رحيل شاعرنا.. هجرة وطن.. وإذا بها هجرة بدن لغتها العيون.. أدواتها العشق والقبلات.. لكأن الأمر:
لا تلوميني إذا حدقت في صفحة وجهك
ثم أرسلت سهامي نحو ثغرك
والتقت عيني بعينك
انني أبحث عمّا لا أراه عند غيرك
شاعرنا لم يرحل.. بقي صامداً بسهامه التي يطلقها عن بُعد.. مع شيء من الوعيد بالرحيل الذي لم يتم.
مع ذا قال شاعرنا عن الحياة؟ بماذا أوحت له؟!
تنقضي أيام عمري كمداً
وأنا لما أزل غض الإهاب
ويشيخ القلب مني.. وهو ما زال شباب
حسرات. زفرات.. ورغبات مفقودة.. وذكريات موؤودة.. ملامح رمادية لعمر بائس حاول أن يهرب من واقعه وموقعه إلى البحر فأخذته الريح عبر الاتجاهات أملاً في النجاة.. تاه ومات الحب.. مأساة نلجأ إليها عند الضرورة نحن الشعراء.. ونحن ننعم بالدفء داخل أسوار بيوتنا لا بد منها لصالح غيرنا ممن يكتوون بنار الهجر.. وسعير الهجير.
مشكلة شاعرنا أنه يملك قلبين لا قلب واحد ليسا على وفاق..
قد كان لي قلبان. قلب صفته
ووهبت للصبوات قلبي الثاني
تَلِفَ الأخير بفعل غارات الهوى
بسهام لحظٍ من عيون غواني
ورجعت للقلب المصون لعلني
أحيي به ما مات من إنساني
وكانت الخيبة في عيبه.. وجده صدئاً. قديماً. نالنا.. متوقفاً عن الخفقان.. اختار طبيب أي كيوين الحب بحثاً عن وصفة خلاص تنقذه من ورطته.. وجاءت على لسان شيخه الصالح..
دع ذا بني عليك بالإيمان
يبدو أن وصفة علاجه لم تجد معه نفعاً. اختار الجانب الذي ينبض له القلب بعد أن نصحه من يملك الخبرة وطول المران:
اذهب إلى بلد الجمال فإنه
طب لكل متيم ولهان..
«ان الحياة دقائق وثواني»
بلد الجمال افتقد جماله بعد أن عصفت به رياح الفتنة.. لم يعد مقصداً لأحد.
في مقطوعاته مداد من عيون تتعدد العناوين.. بداية بسارق الوطن:
أيها السارق مني وطني
كن أميناً لا تخرب سكني
لا تعطل منبع الماء، وتحرق شجري
انتبه!
وارع من بعدي حقولي
من ذبول الورق قبل الموسم
عجيب أمر شاعرنا بعد أن عجز دفاعاً عن وطنه يوصي السارق كما لو كان في موقع القوة الرأفة بسكنه. ومكانه. ومكانته..
المهزومون لا يملكون صفة الأمر.. ولا حتى وصفة الرجاء المقبول.. الذين يسرقون الأوطان هم الذين يملكون إرادتهم على غيرهم لأنهم لصوص.. يخربون.. ويدمرون الآبار. ويحرقون المزارع ويحصدون الأرواح.. ويعتقلون. ويهجرون السكان.. وما إسرائيل النبتة الشيطانية الاستيطانية عنا ببعيد..
للمرة الأولى ينسحب شاعرنا من حلبة المقاومة مختاراً لا محتارا.. يقول:
أعلنت بياني التالي
أوقفت مقاومتي فوراً
لا طاقة لي بجهاد الحب
لماذا هذا الانسحاب من الساحة.. الهزيمة لا تصنع الرجال.. ولا تليق بسمعة الأبطال؟!
قد كان معي قلباً سندا
يتحفز دوماً للحرب
لكن القلب غدا كهلاً. واستسلمت..
عندما تشيخ القلوب تتهاوى قلاع الحب.. وتتحول من عين إلى مجرد أثر يشار إليه في رثاء.
شاعرنا مع حبه في ذهول..
قلت للحب وقد أوقعني
ما رأت عيني منه في ذهول
أيها الحب ألا استأذنت قلبي
حين قررت الدخول..؟
من قال لك ان الحب يستأذن.؟ إان القلب يملك إغلاق نوافذ الحب..؟ أبواب الحب مشرعة كأبواب الحرب.. تفرض أجندتها بإرادة القوة.. أو بقوة الإرادة.. لا أحد يستأذن يا عزيزي سعد..
«عش بوطنك» عنوان جديد كلماته تقول:
لا تبحث عن ماض لا يأتي لا تتعلّق بالمفقود
لا تتطلع للآتي فالآتي باب موصود
يكفي أن تحيا يومك.. فاليوم هو الموجود
شاعرنا فصّل أبياته الثلاثة على ما سبق أن قاله شاعرنا قبله هو عمر الخيام في رباعياته.
لا تشغل البال بماضي الزمان.
ولا بآتي العيش قبل الأوان
واغنم من الحاضر لذاته
فليس طبع الليالي الأمان
عبر حلقتين مجتمعتين مع شاعرنا سعد الغريبي في ديوان مداد من الغيوم كانت لنا رحلة لا غيوم فيها.. مداده.. وقلمه أبحرا سوياً من خلال قارب رسا بهما دون ضياع.
مع أطيب وأغلى تحياتي