حمّاد السالمي
- زارني قبل عدة أيام؛ صديق وزميل دراسة في المرحلتين الإعدادية والثانوية قبل أكثر من أربعين عامًا، من أولئك الذين ازدادوا بالطائف، وعاشوا حياتهم الأولى فيها، ثم انتقلوا إلى مدن أخرى لظروف عملية وأسرية. ما أكثر هؤلاء الذين مروا بالطائف؛ ثم ما زالوا يحفظون لها الود.
- أراد أن نقف على أماكننا القديمة في هذه المدينة العريقة، التي كانت منفتحة، وضاجة بالحركة، ونابضة بالحياة، ومتشحة بالفرح والمرح. أتحدث عن الطائف وهي نموذج لبقية مدننا. دخلنا حي الشرقية، وتذكرنا توًّا دور السينما التي كانت هنا وهناك. ثلاث عشرة دار سينما كنا ندخلها أيام الطلب؛ فنشاهد الأفلام العربية بالأبيض والأسود مقابل ريالين فقط. نتذكر فيلم (أبي فوق الشجرة)، وفيلم (اسكريم فوق النهود)، وهما وكل ما كان يعرض لنا من أفلام عربية على الشاشة أيام زمان، يصل إلينا اليوم في غرف نومنا على شاشات الفضائيات دون رقيب ولا حسيب، ويصل معه الغث الذي لا يرضاه كل سليم فطرة.
- انتقلنا إلى حي اليمانية، وحي فوق، وحي أسفل، وشهار، والسلامة، وقروى. هنا كانت تقام الأفراح والليالي الملاح في الشارع العام؛ حيث تتبارى الأحياء في تنظيم هذه الحفلات وإحيائها. يقيمها سكان الحي، وكنا نشاهد ألعاب المزمار والمجرور، ونشاهد طارق عبد الحيكم، وطلال مداح، وعبد الله محمد، وسمير الشامي، وغيرهم، يغنون للناس أشجى الألحان وأجمل الشعر، والكل منصت مسرور فرح. لا تفوت مناسبة عيد أو زواج إلا ولكل حي أفراحه، وكنت في تلك الفترة أحمل كامرتي وأرافق المرحوم (محمد بن علي بن حريب) وكيل إمارة الطائف، الذي يطوف على كل حفلات الأحياء محييًا ومشجعًا ومقيّمًا كذلك. ليالي رمضان لها طابع خاص، فلكل حي برحة يلتقي فيها الشبان يمرحون ويلعبون المزمار والمدوان، ويمارسون كافة المسليات البريئة.
- انتقلنا بعد ذلك إلى حي المثناة- وما أدراك ما المثناة- هنا كانت بساتين العنب والرمان والورد، وهنا كانت قيلات الأصحاب والأحباب، وهنا سمرات الأسر والعوائل، الذين يفدون صائفة كل عام من كافة مدن المملكة إلى عشرات البساتين؛ من العصر حتى منتصف الليل، ليسمعوا أغاني توحة، والصيرفية، وابتسام لطفي، وعتاب، وغيرهن من فنانات الزمن الجميل.
- عرجنا بعد ذلك على مدينة الملك فيصل العلمية، التي كانت تضم مدرسة دار التوحيد. هنا كانت تقام مسابقات رياضية وفنية وتشكيلية وكشفية على مستوى الطائف والمملكة كذلك. هنا كان يقام كل صيف مركز صيفي علمي ثقافي فني، يختتم فعالياته بحفل كبير يرعاه وزير المعارف أو أمير الطائف، ويعرض نماذج من إبداعات الطلاب العلمية والأدبية والشعرية والفنية والموسيقية. قلت لصاحبي ونحن نقف على أطلال كانت سارة وفرحة مفرحة ذات يوم: من هنا ظهرت فرقة موسيقية كشفية بقيادة الأستاذ حسن العبادي، كان يديرها فني موسيقي مصري (مايسترو) حتى العام 1399هـ.
- ماذا جرى لنا يا ترى..؟! أين ذاك الذي كان يا أيها الإنسان..؟!
- بعد ذلك؛ أخذتنا خطى سيارتنا إلى منتدى السالمي الثقافي في بني سالم خارج الطائف، وجلسنا في الهواء الطلق نشرب الشاي الطائفي بالنعناع، ثم نتداول الحديث حول حاجتنا الاجتماعية الملحة للانفتاح والمرح والفرح والترفيه، بعد أربعة عقود من التجهم والسوداوية.
- ساقنا الكلام بطبيعة الحال؛ إلى (الهيئة العامة للترفيه)، التي ظهرت مؤخرًا في التحول الإداري المهم الذي أجراه خادم الحرمين الشريفين على رأس الهرم الوزاري للدولة. ماذا نريد من هيئة الترفيه..؟ وماذا يمكن أن تفعل؛ وهي التي سوف تواجه الكثير من المعضلات..؟
- كدت وزميلي نتفق على أن الذي نريده من هيئة الترفيه ليس أكثر من العودة بنا إلى زمن الانفتاح الاجتماعي الذي تميز بالبراءة والتلقائية، وقام على مرتكزات ثقافية وتراثية شعبية بالدرجة الأولى. ليس صعبًا أن نستثمر موروثنا الشعبي والفني في الترفيه وخلق أجواء فرحية في كل مناسبة سانحة، وتنظيم المهرجانات التراثية: (صناعة وزراعة ولبسة وأكلة وهواية)، وغيرها من أنماط حياتنا التي تتنوع وتتعدد وتتباين من منطقة إلى أخرى.
- ليس صعبًا أن يعود المسرح المدرسي والشعبي والثقافي، وأن تعود دور السينما لاحتواء ملايين الوافدين والشباب؛ الذين يذرعون الشوارع بسياراتهم في استعراضات بلهاء مؤذية أحيانًا.
- ليس صعبًا أن تلتقي مناشط هيئة الترفيه مع برامج هيئة الثقافة وهيئة السياحة؛ لاستثمار البنى الجغرافية والآثارية والتاريخية في رياضات جاذبة، ورحلات مفيدة، ومهرجانات لافتة، وتشجيع المستثمرين في إنشاء أندية للصحة والتخسيس والمساج، وأخرى للرياضات المختلفة، والألعاب التي يهتم بها صغار السن والشباب، وتشجيع ورعاية المواهب الأدبية والفنية والموسيقية والمسرحية.
- ليس صعبًا أن نصل إلى أسرنا وأطفالنا وشبابنا من الباب بدل النافذة. نصل إليهم من خلال القنوات الفضائية، والبرامج الموجهة، وفصول تعليم الرسم، والنوتة الموسيقية، والتمثيل، والخطابة، والنظم، تلك التي ترعاها مؤسسات الدولة والمراكز المرخص لها بهذا، بعيدًا عن الأدلجة والتغريب في مخيمات وخلوات تديرها عقول التطرف والغلو، وبعيدًا أكثر عن جنائز الموتى وقبورهم التي كانت تحفل بها بعض المدارس.
- ليس صعبًا أن نستعيد ما كنا عليه من مرح وفرح ونزيد عليه، إذ نحن من استسلم لغفوة الصحوة؛ وضيّع في التقطيب والتجهم عقودًا أربعة..!