حمّاد السالمي
- عشت بعد وفاة والدي - رحمه الله - ربع يتيم لأكثر من أربعين سنة. كانت والدتي - رحمها الله - تجبر هذا النقص النفسي الحاد في حياتي، وتنسيني ربع يُتمي بعطفها وحنانها، بفضل الله ثم بفضل عيشي معها، وقربها مني، حتى اختارها الله إلى جواره
صبيحة يوم الأربعاء الحادي والعشرين من شهر جمادى الآخرة الفارط.
- وقفت عند جسدها المسجى على سرير مرضها بعد وفاتها، أودع روحي التي عشت بها طيلة سنوات عمري. أخذت أكفكف دمعي وأغالب أنفاسًا كادت تتوقف من شدة الألم. لم يخرجني من هذا الموقف العصيب إلا الدعاء لها بالرحمة والغفران، وأن يلهمني ربي الصبر على الفقد العظيم الذي لم أعرف مثله في حياتي قط.
- كانت والدتي تحمل يُتمي لأبي أربعة عقود عشت في كنفها ربع يتيم. عندما وارينا جسدها الطاهر التراب، شعرت بهزة قوية، وعرفت أني من هذه اللحظة أصبحت يتيمًا كامل اليُتم. ألم يخبرنا رسولنا المصطفى صلوات الله وسلامه عليه؛ أن مكانة الأم تفوق مكانة الأب بثلاث درجات..؟ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء رجلٌ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: (أمك)، قال: ثم من؟ قال: (أمك)، قال: ثم من؟ قال: (أمك)، قال: ثم من؟ قال: (أبوك). وفي حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده (معاوية بن حيدة) رضي الله عنه قال قلت: يا رسول الله: من أَبَرُّ ؟ قال: (أمك)، قلت من أبَرُّ؟ قال: (أمك)، قلت من أبَرُّ؟ قال: (أمك)، قلت من أبَرُّ ؟ قال: (أباك، ثم الأقرب فالأقرب).
- تعلمت من أبي - رحمه الله - العزة بالنفس، والثقة بالذات، والعدالة مع الأقربين والأبعدين. وتعلمت من أمي الحب الذي ليس له حدود، فهي التي كانت تسبق في السؤال عني قبل أن أُبادر بهذا الواجب، وهي التي كانت تقرأ في عيوني وملامحي؛ ما يختلج في نفسي، وما أشعر به من تعب أو حزن أو فرح، وهي التي ظلت طيلة حياتها حريصة على أن تُذكّرني بواجباتي نحو الإخوة والأخوات والأهل والأقارب، وحتى الجيران والمعارف. ما أطيب هذا القلب الذي رحل، وما أكبر هذا الحب الذي فقدت.
- أمي.. وهل كان في حياتي أجمل من هذه الكلمة التي عشت عمري كله أرددها..؟ حتى وأمي فوق أكتافنا على آلة محمولة إلى مثواها الأخير؛ وسوف أبقى أرددها وأكتبها بدمعي الذي ينهمر اللحظة على عيني حتى حال بيني وبين رؤية هذه الأسطر التي أخطها على شاشة الكمبيوتر.
- العقود التي عاشتها أمي طيلة حياتها في كفة، والأشهر الأربعة الأخيرة من حياتها التي قضتها وهي تصارع المرض على سرير العناية الفائقة في كفة أخرى. كانت عفيفة عزيزة. حتى وهي مريضة لا تطلب ولا تشتكي ولا تتذمر ولا تعاتب أحدًا حتى من أبنائها وبناتها، وكأن كل الدنيا ملكها، كانت تتلمّس الأعذار لقصورنا في خدمتها، وتبحث عن تبرير لهذا وذاك، وهذه وتلك، وكانت قاصمة الظهر بالنسبة لي شخصيًا، يوم وقفت بجوارها وهي مسجاة على سرير المرض قبل وفاتها بيوم واحد.. لقد حدّقت في وجهي بعينين زائقتين، وبعد طول تركيز قالت: (سامحني يا حمّاد أتعبتك)..!!
- نزلت هذه العبارة على سمعي كصاعقة قوية. جمدت الدماء في عروقي. أصابتني رجفة، فخرجت مسرعًا لا ألوي على شيء، وشعرت أن كل مَنْ وما حولي أشباح، وأن الأرض التي أسير عليها؛ غير تلك التي وطئتها في قدومي للمستشفى. لم أدرك أن أمي تودعني بهذه العبارة الصادمة.. مكثت يومي كله وأنا أردد معي نفسي: (مَنْ يسامح مَنْ يا أمي)..؟!! يا الله.. رحماك ربي. حتى وأنا أقبل جبينها المشرق بعد تكفينها؛ رحت أردد على مسمع لم يعد يسمعني: (مَنْ يسامح مَنْ يا أمي)..؟!
- بعد الدفن وتلقي المواساة والعزاء؛ رحت أتحدث مع نفسي وأسائلها: لماذا لم أسبق أنا بالاعتذار من أمي قبل وفاتها بذات العبارة الحارقة..؟ لماذا لم أقل لها: (سامحيني يا أمي أتعبتك.. قصرت في حقك)..؟
- الأم وهي تنازع الموت؛ تطلب من ابنها السماح..!! تخيلوا أن أمهاتكم تقول لكم ذات العبارة. يا إلهي.. ما أعظم الأم وما أكبر قلبها. أفلا تملك الأم ثلاثة أرباع اليُتم وربع واحد للأب..؟! لهذا أوصى رسولنا الكريم ببرها وجعله يفوق بر الأب بثلاث درجات.
- أمي.. وأنت اليوم بين يدي الحي القيوم: سامحيني أن قصرت في حقك، وسامحيني؛ لسوف أظل أردد سؤالي لك ما حييت: (مَنْ يسامح مَنْ يا أمي)..؟
- تغمد الله روحك الجنة أمي الحبيبة، وجمعنا بك في جنة نعيم.
رعاها اللّه من أمٍّ رؤومٍ
ولقّاها السرورَ وخيرَ عُقبى
فمن ينسى الأمانَ بحجر أمٍّ
وقدْ أرخى على الأنغام هُدبا؟
ومنْ ينسىَ التي سهرتْ عليهِ
ليالي شدةٍ تقتاتُ رُعبا؟
فلن أنساكِ يا أمي - حياتي
وهل تنسى عروق الحيّ قلبا؟