عبد الرحمن بن محمد السدحان
أُكملُ اليوم ما انتهيتُ إليه في حديث الأسبوع قبل الماضي، فأُشيرُ إلى أنّ (الموظفَ) ذا النفوذ المتعاظم فجأة في الجهاز الإداري.. قد يتحوَّل إلى (ظاهرة) من غنِىَ المال وسطوة القرار وما يستصحبه ذلك من نفوذ، وما يفْرزُه من سلطة ليصبح يوماً من أصحاب الملايين، وقد يقوده الثراء غير المشروع إلى إغداق الهبات على من حوله ومن دونه في السلم البيروقراطي أمّا تكميماً للأفواه أو تحجيماً للذمم، وإمّا استدراجاً لمن يرشحه النزق المادي ليكون عوناً له وسنداً، وقد يفعل ذلك ذرّاً للرماد في الأسماع والأبصار، فلا عينٌ ترَى ولا أذنٌ تسمع، ولا يطرأُ على بالِ بشرٍ ما آل إليه ذلك المخلوق من جاه وغُنْم!!
* * *
أود أن أختم هذا المقال بالتنبيه إلى ظاهرة يشهدها مجتمعنا منذ سنين، تنمُّ عن (خلط جاهر) في القيَم، وأُصوّرها بالموقف التالي:
(تقود أحدَنا ظروفُ المرض إلى ابتغاء العلاج في المستشفى، لفترة قد تطول أو تقصر، ويحظَى خلال هذه الفترة برعاية وعناية المشرفين على المرفق بما يمليه العرفُ المهنيّ المتوقَّع، أطباء وممرضين وإداريين، وحين تدركه العافية، ويزِفُ الرحيلُ عن المستشفى يعمد، بحسن نية إلى مكافأة أحد أو بعض من توَّلى الإشراف عليه بمنحه (هبةً) من نوع ما، قد تكون مبلغاً مقطوعاً من المال، وقد تكون عيناً ذات قيمة، وهو يفعل ذلك عن عمد وإصرار اعتقاداً منه أن (الموهوب) قد بذل جهداً غير عادي في خدمته يستحق من أجله المكافأة!
* * *
والمؤْرقُ في الأمر أن عادة (منح الهبات) هذه، مهما تباين قدرُها أو نوعُها، لا تقف عند حد من زمان أو مكان، بل تتواصل وتتكرر مع مريض آخر فثالث فرابع، وهكذا، حتى تصبحَ في النهاية أمراً يُتوَقّع، وشأناً يُحسب له كل حساب من لدن بعض القائمين على هذا المرفق أو ذاك، وخصوصاً الأطباء والممرضين، والأَنْكى من ذلك كله أن هؤلاء الأشخاص قد (يُكوَّنُون) نوعاً من (التقنين) لخدمة المرضى، ليس على أساس ما يمليه شرف المهنة وأخلاقياتها، ولكن بقدر ما يتوقعونه من (عطاء) المريض نفسه، أثناء وبعد انتهاء فترة العلاج، وتتشكّل أنماطُ سلوكهم بهذا الموقف، فإن أنِسُوا من المريض جُوداً وقدرةً على (العطاء) أحسنوا له الخدمة، وسعوا في سبيله بما يرضيه، وإن كان الأمرُ خلافَ ذلك، (فويلٌ) للمريض منهم.. شعوراً وسلوكاً!
* * *
أذن، فقد تحولت (الهدية) أو (الهبة) في مثل هذا الموقف إلى نوع من أنواع (الرشوة)! الغني ينْعمُ (بعطائه)، والفقير يتعثر في رداء فقره، وأعتقد أننا بمثل هذا السلوك مهما توفر له من دوافع حسن النية أو الطيبة الإنسانية نسهم إسهاماً خطيراً في نشوء (فيروس) الرشوة، في بعض مرافق الخدمة العامة، كمرفق المستشفى مثلاً، حيث تبدأ (عَرَضاً) خفيفاً، ثم تنالها (سنة التطور)، فتعظم حتى تصبح وباءً ينمو بالعدوى ويتغذى بالتخاذل والغفلة ووهن النفس الإنسانية أمام بريق المال، كما أننا بسلوكنا هذا نؤذي الفقيرَ ومحدودَ الدخل الذي لا يملك وسيلةَ إشباعِ نهمِ هذه الفئة من العاملين.
* * *
وبعد ..،
فالحديث عن الرشوة موردٌ لا ينضب، وقديم يتجدَّد، لأن الظاهرة نفسَها قديمةٌ العهد، متجددةُ الأطوار والسبل والغايات، وليس من سبيل للقضاء على الظاهرة في الأجل القريب، ولكن يمكن التماسُ أكثر من وسيلة للتغلُّب عليها ليس بالعقاب الرادع فحسب، وهو ما تجتهد أجهزة الأمن فيه بحزم يعكس حرص الجهات المسئولة على كل المستويات، ويستوي مع ذلك نفْعاً محاولةُ تحصين النفوس بالكلمة النافعة، تبشيراً وتنذيراً، إلى جانب التعّرف على الظروف والمتغيرات السلوكية والإنسانية والإدارية، التي تسوّل للناس أحياناً فتنة اقتراف اثم الرشوة أو الوقوع أسْرَى ظُلمِها وظَلامِها!