عبد الرحمن بن محمد السدحان
«الحديث عن بداياتي مع القلم شيّق وشاقّ في آن.. فأنا مزيج من ثقافتين في أرض الجزيرة العربية، أتى والدي رحمه الله من شقراء ليجمعه النصيب الحلال بوالدتي طيب الله ثراها فـي أبها، وكنتُ نتاجاً لثقافتيْن كان فيهما من التباين الشيء الكثير!
***
« كانت بداياتي الأولى في أبها، حيث لم أنعمْ بفردوس الطفولة ككل الأطفال، ذقتُ مرارتَها في المدرسة الابتدائية، حيث كانت تُتبَّع أساليب أقل ما يقال عنها أنها بدائية، تعتمد القمعَ الحسِّيَ والمعنوي وسيلةً للتلقين! وكان مدرس الفصل غفر الله له يّتكئُ على عصاً طويلة، تترجم سطوته، وله فيها مآربُ أخرى!
***
« تعلمت قراءةَ القرآن الكريم وكتابةَ بعض الجمل والعبارات، ثم قَررتُ بعد حين أن أهجرَ المدرسَة فراراً من سطوة العصا التي لا ترْحمُ، وأعوُد ذات مساء لأُنذرَ (جدي لأمي) رحمهما الله بأنّني لن أعودَ إلى المدرسة أبداً، وإنني أفضل العمل معه في مزرعته فلاحاً أو راعياً للغنم .. أو مزيجاً من الاثنين!
***
« كان لي ما أردتُ، إذْ عملتُ فلاحاً وراعياً للغنم.. وكان عمري في ذلك الوقت لا يتجاوز السابعة، وكنت أغدُو مع الغنم صباحاً وأروح مساء لأقرأَ ما تيسّر لي من القرآن الكريم وأخطَّ على الورق جُمَلاً وعبارات، أو أكتبَ إلى نفسي رسائلَ مبهمةُ الغاية والمعنى، ثم أتناول ما أتُيحَ لي من عشاء، قبل أن أخلدَ إلى النوم حتى الفجر!
***
« وتمضي السنوات سراعاً.. وأنا أنقل خُطىَ العناء بين أكثر من مدينة وقرية داخل المملكة.. تارةً يهزمني الحنينُ إلى والدتي، فأصبُوا إليها، وأخرى (أهجرها) مؤقتاً هجْراً جميلاً لألتحِقَ بأبي رحمه الله حيثُما كان، ثم يستقرُّ بي المقامُ أخيراً في مدينة الرياض، وهناك وُلدَ حبِّي الأول للقراءة والكتابة!
***
« عشقتُ الكتابةَ منذُ نعومة صِبَاي، كانَتْ وما برحتْ خِلاًّ لي لم أهجرْه أو يَعافني، ثم رحلتُ إلى أمريكا للدراسة الجامعية، وهناك شغلتني الدراسة عن كلّ شيء، وفُتِنتُ بها عن كلّ شيء، وكان إنجازُها بنجاح عندي كلَّ شي!
***
« ثم عدتُ من أمريكا متخرجاً في عام (1970م) لألتَحِقَ بمعهد الإدارة العامة بالرياض، واستأنفَ القراءةَ المكثفةَ باللغة العربية، واستيقظَ في خاطري مجدداً الحنينُ القديُم نحو الكتابة، و كنتُ قد تَعلَّمتُ (هندستَها) من خلال تعاملي مع الإنجليزية لغةً وأنشاءاً، اكتسبتُ منها مَنْهجَ (المصالحة) بين طمُوح القَلم وجُمُوح الكلمة وسَطْوة العقل، ومن خلال تلك الممارسة العقلانية اكتَشْفتُ عمقَ الخطأ الذي كنت أرتكبه في كتابتي العربية في السنين الخوالي، وهي النزعة نحو الإسهاب فـِي التعبيِر والشَّتاتِ فـي المعنى!
***
« ثم بدأتُ البحثَ عن متنفَّسٍ لقلمي، فوجدتُ ضالتي في مجلة (اليمامة) إبّان ولاية رئيس تحريرها الصديق الأستاذ محمد بن أحمد الشدي، الذي رحب بي، فانطلقت بحماس منذ ذلك الحين، بدءاً بزاوية (غصن زيتون) فـي (اليمامة) وانتهاء بـ(الرئة الثالثة) فـي (الجزيرة)!
***
« وقد سئلت أكثر من مرة عن مغزى (غصن زيتون) فكان جوابي وما زال أنه رمز يجسد معنى النور والسلام، وأنني بوجه عام أطرح فيما أكتب مواقفَ وآراء تمس الهم الإنساني أو تتحدث عن خصائص وإرهاصات النفس الإنسانية على نحو لا يحرجَ أحداً أو يجرحه أو يشهّر به، لم اقصد بـ(غصن الزيتون) بدءاً
ولا بـ(الرئة الثالثة) انتهاء أن يكون أيُّ منهما منبرَ(مهادنةٍ) مع قضايا أو مواقف تمسُّ كرامة ديني أو وطني، واعتمدت من أجل ذلك أسلوبَ المواجهة العاقلة مع العديد من الظواهر الاجتماعية والسلوكية في بلادي، لكن بأسلوب أزعم انه كان بعيداً عن التوتر النفسي أو الافتئات على الحقيقة أو الناس!
***
وبعد ..،
« فالكتابةُ عندي عشق يُضني صاحبه صبحاً وعشياً وفي الأسحار والغسق، لكنه رغم ذلك، عشق يوقظ في الروح جذوةَ الحب للحياة والأحياء، ويوقد في النفس شموع التفاؤل المشبع بحب الخير والإبداع والجمال، واستمدّ من هذا الهاجس بوحَ القلم!