عبد الرحمن بن محمد السدحان
استهل هذا الحديث بالسؤال التالي: هل الرشوة داء أم (عادة) تتوارثها الأجيال، أم وسيلة (مكيافيليّة) لقهر إحباطات العيش غير السويّ؟!
* * *
وبمفهوم آخر، هل الرشوة امتدادٌ لمحنة الفقر أم إفرازٌ لترف الغنى؟ أم ظاهرة سلوكية يتقاسمها الطرفان بأساليب مختلفة ولأغراض متباينة؟ هذه بعض التساؤلات التي تنازع الخاطر كلما أتى على ذكر قضية الرشوة، وأقول (قضية) لأنها باتت تحتل مساحة كبيرة من وعينا الخلقي والإداري والاجتماعي، وهاجساً نكْلف به مُمْسين ومصبحين!
* * *
والردُّ على هذه التساؤلات ليس بالأمر الهين وليس في وسع كاتب هذه السطور بقدراته المتواضعة إشباعُ شغف القارئ بمحاولة الرد في عجالة كهذه، فتلك مهمة ذوي العلم والفهم والبصيرة في شئون النفس والإدارة والمجتمع، وأتمنَّى لو تَتَطوع جامعتُنا الأمّ (الملك سعود) بعقد ندوة متخصصة لبحثِ هذه الظاهرة من أطرافها الدينية والاجتماعية والنفسية والإدارية، لمعرفة خصَائصها، وسبُل نشُوئها، والكيفيات التي توجد بها، ثم تدبّرُ وسائلِ دْرئها والوقاية منها.
* * *
أعود من حيث بدأت فأقول: (إن هناك بعض الوقائع المشهودة حول قضية الرشوة يمكن التأمل حولها على النحو التالي:
أولاً: إن للرشوة هويةً دوليةً، لا تختص بها قارة دون أخرى، ولا ينفرد بها شعب دون آخر، والقول بغير ذلك مغالطة صريحة للتاريخ والجغرافيا قديمِهما وحديثِهما.
* * *
ثانياً: إن الرشوةَ مظهر سلوكي قديم تزامن مع نموّ الإنسان نفسه منذ أن بدأ معاناة البحث عن العيش وسط غابة المصالح المعقّدة، والتنظيمات والطقوس البيروقراطية بفنُونِها وأحجَامها المتباينةِ بين الشعوب.
* * *
ثالثاً: إن الرشوةَ سلوكٌ اجتماعي يشترك في ممارسته الغنيُّ والفقيرُ سواء، فهي ليست محنةَ الفقيرِ يمارسُها تحت وطْأة العَوز أو يقترفها الغني استجابةً لنزغ الترف، ولكن لكل منهما حيله وسُبله وأغراضه منها.
* * *
رابعاً: إن الرشوة تنشأ في الغالب استجابةً لمعوقات سلوكية تجسّد انهزاميةَ الذات العليا وتراجُع الخلق لدى مقترفها، راشياً كان أو مرتشياً، أو وسيطاً بين هذا وذاك.
* * *
خامساً: قد تنشأ الرشوة نتيجةَ عوَج في بنية وكيفية التعامل بين أفراد المجتمع من جهة، وبين المؤسسات التي تَخدم هؤلاء الأفراد من جهة أخرى، فمثلاً:
أ) الغُلوُّ اللاّفتُ في سنِّ الإجراءات الإدارية التي تكيف بها مصالح الناس، مما قد يدفع بعضَهم أحياناً إلى التماس سبُل الغَلَبة على هذه الإجراءات، توفيراً للوقت والجهد، فمَنْ كان منهم ذا قربَى
أو صلة بذي نفوذ، استعان بنفُوذِه لاختراقِ حاجزِ تلك الإجراءات، وتحقيق غرضه، وهذا ما يُعرف بـ(الوساطة)، ومن عزَّ عليه ذلك لجأ إلى المال وسيلةً لبلوُغ ما يريد، وهذا ضرب من ضرُوب الرشوة!
* * *
ب) ومن عجَبٍ أن هناك «صلةَ قُرْبَى» بين الرشوة وبعض أنماط الوساطة، إذ تغدو إحداهما مطيةَ الأخرى، حين يلتمسُ امرؤٌ من الناس بالمال (العونَ) من وسيط يُقرّبه من ذي نفوذ، فيبلغ منه ما يريد، أو يتجنب عبره ما لا يريد، والأَعجبُ من هذا وذاك أن هناك فئةً من الناس تجاهرُ بمثْلِ هذا السلوك، وتدّعي «شرعيتَه» وتخلع عليها حللاً تقتبسها من تجارة الأعمال أو أعمال التجارة، كما لو كان هذا السلوك عَملاً حُراً وشريفاً!
* * *
ج) وأحياناً، تُحكِمُ محنةُ الفقر قبضتَها على موظف تصيّره الظروف ليكون ذا نفوذ إجرائي له مكان ما ضمن الهيكل البيروقراطي، يلتصقُ بمصَالح فئة.. من الناس (فيستثمرَ) نفوذَه الإداري، لخدمة أغراضه بتسهيل منافع الناس لقاءَ مبلغ ما، مُوهِماً نفسَه أن سلوك هذا الدرب أمرٌ مؤقّت للتغلب على محنة فقره وعوزه، وقصور دخله المشروع عن تحقيق أغراضِ معَاشِه، وقد يُمضي هذا الموظف ردْحاً من الزمن سالكاً ذات النهج، حريصاً على درْءِ الشبهات عن نفسه، حتى يصيرَ فقرُه غنىً!
* * *
(وللحديث صلة)