عبد الرحمن بن محمد السدحان
الزمان: الحادية عشرة من صباح الأول من ذات رجب من ذات عام.
المكـان: (زنزانة) تسمّى اصطلاحاً (مكتب)، لا تزيد مساحتها عن اثني عشر متراً مربعاً، تكسو معظم جدرانها خزائنُ حديدية ضخمة شوه ألوانَها الزمنُ ليضيفَ إلى كآبةِ المكانِِ كآبةً في الخاطر لا تُحتَمل!.
**
في الدور الأسفل من المبنى، يقعُ مكتب مدير المحفوظات العم (صابر)، ذلك الموظف القديم قِدمَ المبنى العتيق الذي يستضيف مكتبه، وفي مساحة من أحد الجدران تتدلّى لوحة عتيقة كُتِبَ عليها عبارة: (للصبر حدود) بلون ٍباهتٍ، كأنَّما أرهقْته (قوارضُ) التّعرية، فازداد تشوّهاً!.
**
كان العمُّ «صابر» عاكفاً صباح ذلك اليوم على تصفُّح معاملة عاجلة احيلت له من رئيس القسم، حين أقبلَ عليه ساعي الإدارة فحيّاه على عَجلٍ تحيةَ الصباح، ووضع على مكتبه ورقةً، وهمَّ بالانصراف، لكن العمَّ «صابر» استوقفه وهو يفْركُ عينيْه المجْهدتيْن بعد ما أزاح عنهما نظارةً ضخمةً مقعّرةَ العدستْين تَروي الكثيرَ عن سيرة صاحبها ! وسأل في شيء من دهشة: «ما هذا؟» فردَّ الساعي قائلاً «أنسَيتَ يا عم صابر أنني أميُّ لا أقرأ؟» ثم انصرف!.
**
راح العم صابر يتأمل مضمُون الورقة، فإذا هي صورةٌ من قرار إحالتهِ للتقاعد، وهنا تقعُ عينَاه على عبارة وردت في ذيل الورقة تقول: (صورةٌ للمذكور) فيكاد صاحُبنا يُصعق، ثم يقفز من مكانه وشفتاه تمُوران غيظاً يكاد يَبلغُ حدَّ الصراخ، ويطفقُ ينَاجي نفسَه قائلاً «ألمْ تجدْ الادارة خيراً من كلمة (المذكور) تودّعني بها!؟.. واحسْرتَاه! لم يعدْ لي اسم ولا لقبٌ ولا جَاه، في عرف هذه الادارة الناكرة لـ(العِشْرةِ) سنيناً.. أنا لا أنكر مبْدأَ التقاعد، فهو (الأجل) لكل موظف تسْتهْلكهُ الوظيفةُ أو يستَهلكُها، لكنني أستنكر بشدة (أسلوبَ) إبلاغه!.
**
ويبدّدُ وحدةَ العم صابر وصولُ الموظفِ الشابِ الحديثِ تعييناً في إدارته، ليشاطرهَ (شاي) الساعة العاشرة، ويهتفُ الشابُ بصوت مسموع وقد أنكر عليه حالَه: (ما بك يا عمّ صابر؟) فيرفع هذا بصره المبلّلَ بندى الحزن مشيراً بيده إلى (قصاصة) الورق المسجاة امامه كجسدٍ يحتضر!، وهنا تكسُو وجهَ الشاب ابتسَامةُ مكرٍ وهو يتْلو آخر عبارة في القرار، ثم يقول : إذاً لا (شايَ) بعد اليوم يا.... يا أستاذ (مذكور)! وينصرف، ويَشْعرُ العم صابر وكأنّ نَصْلاً قد اخترق جدَارَ قلبه، فيعود يُنَاجي نفسَه: «حتى هذا الفتَى الغَرّ لم يرْعَ لي قدراً ! اقترن اسمي في ذهنه باللقب الذي (خلعَتْهُ) عليّ الإدارة (تكريماً) لي في يوم تقاعدي!».
**
ويعود العم صابر يعزّي نفسَه في صَمْتٍ، وبصرُه يجول ذات اليمين وذات الشمال وكأنّه يودّع الجدران والأثاث والأوراق والملفات المبعثرة هنا وهناك.
وفجأةً، وكمَنْ أفاق من كابوسٍ خبيثٍ، يهتف لنفسه بصوتٍ كهدير الرياح: «لا لن يهزمني هذا القرار، اذا كان التقاعد يعني انتهاء ارتباطي بالوظيفة، فهو لا يعني نهايتي كإنسان! وسأبقى إنساناً بعد الوظيفة، حتى يقضيَ الله أمراً كان مكتوباً)!
قال هذا، وراح يُنْهِي ما كان قد بدأه إزاء (المعاملة) المحالة له من رئيس القسم، وكأنّ شيئاً لم يكن!
**
وبعد: فقد كان ما سبق (سيناريو) من نسج الخيال، غير أني لا أشكُّ لحظةً في أن (الحقيقة) حُبْلى بمْثلِه في أكثر من مكان وزمان! وليأذن لي القارئ الكريم أن أودّعَه بخاطرتين:
أولاهما: أنّ التقاعدَ لا يعني اغتيالَ كرامةِ الموظف أو مصادرةَ إنسانيته، لكنه نهايةٌ لبداية أو بدايةٌ لنهاية أخرى ضمن مشوار العمر!
**
وثانيتهما: أننا نفتْقرُ إلى أسلوبٍ مُبدعٍ يكرِّسُ انسانيةَ الموظف الذي يدركه سنُّ التقاعد، كيلا (يُشبّه) قرارُ التقاعد بشهادة وفاة!.