عبد الرحمن بن محمد السدحان
كان المثقف وسيبقى مستهدفاً بنقد الناس وانتقادهم في كل زمان ومكان، وليس في هذا عيب ولا ريْب من حيث المبدأ، لأن المثقف إنسان قبل أن يكون شيئاً آخر، مهما تفوق تعبيرُه، وسما عطاؤُه، وأبدع بيانُه!
***
وتضمّ (لائحة الاتهامات) للمثقف بعضَ المواقف والأحكام والأقوال، بعضها مثْخن بالعشوائية وفي بعضها الآخر قليلٌ من حق مما قد يتأثر به تعريفُ المثقف وتأهيُله قدراً وإنجازاً!
***
وأسوق لذلك أمثالاً:
فهناك فريق من الناس يتهم المثقف بـ(الفوقية)، (يقولون) إنه ينظر إلى الناس من علٍ، فلا يجب أن يَروا إلاّ ما (يراه)، ولا يسمعوا إلاّ ما يقول، ولا يقرأوا إلاّ ما يكتب!
***
وفريق آخر يتهم المثقف بازدواجية بين القول والفعل، فقد يأمر الناس بمعروف.. وينسَى نفسَه، وقد ينهاهم عن منكر، ويأتي مثله!
***
وفريق ثالث من الناس يتهم المثقف بممارسة ثنائيةٍ حادةٍ الأطراف من التفكير، فـي تعامله مع بعض شئون الحياة وشجون الأحياء.. فيحصر تعامله معها فـي قالبٍ أخرسَ اسمه (إمّا.. وإمّا)، لينتهيَ في بعض الأحوال أو أكثرها إلى لا شيءٌ يفيد!
***
وهناك فريق رابع يأخذ على المثقف اعتزالَه الناسَ داخل صومعة كتبه وأفكاره، ويضيفون أن هذا التوجّهَ يُخرجُ المثقف عن مدار التفاعل الفاعل مع قضاياهم، فرحاً وترحاً!
***
راودتني هذه الرؤى الذهنية عن المثقف قبل حين وأنا أُعد للقاءٍ مكتوب مع إحدى المطبوعات، وقد اخترتُ من بين تلك المداخلات الثقافية ماله صلة بالمسائل التي وطَّأَتْ لها مقدمةُ هذا الحديث، وسأطرحها موجزةً عبر السطور التالية.. فأقول:
***
أولاً:
أرفضُ بإصرار فوقيةَ المثقف و(شوفينّيتَه) وادعاءَه السموَّ لنفسه وما يفعل على خلق الله، وأرى أنه واحد من اثنين:
إما نرجسيُّ الهوى، يمنح نفسه حقَّ الوصاية على مشاعر وعقول وهموم الآخرين بلا حق ولا حجة ولا دليل، عندئذٍ، سننكر عليه هُوية المثقف ما دام يقيم بينه وبين الناس سدوداً وحواجزَ من التفوق والاستعلاء المزعوم، وسينتهي به الأمر إلى نوع من الهذيان لا يسمعُه ولا يقرأه سواه!
وإمّا مثقف يُغْرقُ نفسه في غدير (المثاليات) يحسب أنه يُحسِن القول، أو يكتب شيئاً يقرأ فيُفهَمُ فينْفَعُ!
***
ثانياً:
أما ازدواجية بعض المثقفين فيما يقولون فأمر ليس نكرةً، وما أكثر الذين يبشرون بالعدل وهم أنفسهم يظلمون، وما أكثر الذين يعظون بالصدق وهم أنفسهم يكذبون.. بل قد يرتشون ويحتالون وصولاً إلى المال! ومنهم من قد يُلبس الظنَّ حقيقةً.. لا تُغني من الحق شيئاً!
***
لكن.. يجب ألاّ ننسى أن المثقف، بشرُ من قبل ومن بعد، فهو خطَّاءُ ككل البشر، وقد ينالهُ من فتن الهوى ما يغويه أو يضلّه أو يزلهّ عن الصراط القويم! ولذا، يتعذر القولُ بأنَّ المثقفَ (مُحْصَن) من المزالق التي يتعرضُ لها سواهُ من الناس، وإنْ كان بعضُنا يجُور أحياناً، فيطالبه بـ(الالتزام) بما يقول.. مثاليةً وسلوكاً!
***
ثالثاً:
يُكرهَ للمثقف أن يتعامل مع قضايا الإنسان والحياة بثنائيةٍ حادةِ الأطراف، أحادية الرؤية، أنانية القصد، فلا يرى للقضية سوى وجهيْن: (إما) أبيض أو أسود.. ويتجاهل ألوان الطيف الأخرى! هذا هو التطرف الذي قد يترجم نفسه أحياناً - إذا استوطن العقل - إلى نوع من الإرهاب الفكري المرفوض!
***
باختصار:
نعم.. للثنائيات الفكرية ما دامت تسمح بالقسمة على أكثر من اثنين! ولا.. للثنائيات إذا كان الجدلُ فيها يقودُ إلى طريق مسدود!