د. أحمد الفراج
ارتبط الزهد في ذاكرتي بسلوكيات شيباننا الأوائل، الذين كانوا زهادا حقيقيين، يربطون القول بالفعل، فلا تجد أحدهم، مثلا، يلقي خطبة يحث فيها الناس على الجهاد، ثم يسافر بعد ذلك إلى دولة غربية، كان يشتمها وينعت سكانها بالكفار ليل نهار، ولن تجد منهم من يرسل أبناء الناس إلى مواطن الفتن، ويرسل أبناءه إلى أعرق الجامعات الغربية، ولن تجد منهم من يتحدث عن الزهد، ثم يعلن عن بيع عقار يملكه بعشرات الملايين، ولن تجد من أولئك الزهاد القدماء من يثير البلبلة بسبب قرار تنموي في المملكة، ثم يسافر بعد ذلك إلى دول أخرى يوجد فيها ما اعترض عليه، بل وأكبر، دون أن ينبس ببنت شفة، بل إنه يبالغ بمدح تلك الدول، فهذا مثير فتنة، أكثر منه ناصح، ويظل أشهر الزهاد، الذين علقوا بذاكرتي منذ الصغر، هو صاحب الحمار، أعزكم الله، فقد كان الحمار هو وسيلته للمواصلات، وقد كان يقرن القول بالفعل، رغم أنه من أسرة ثرية جداً.
كان هذا الشيخ يعيش في منزل طيني متهالك، وبجواره شجرة أثل، يربط بها دابته، وكان لا يستخدم أيا من الوسائل الحديثة، مثل الكهرباء، والتلفون، والساعة، وغيرها، فقد كان أهل بيته يطبخون على الحطب، وينامون على الأرض، وما زلت أذكر كيف أنه كان يمر بنا، ونحن نذاكر دروسنا، في أحد الطعوس المرتفعة، قرب منزله الطيني، عندما كنا صغارا، ثم يسلم علينا، ويدعو لنا بالهداية، ويذكرنا بأننا نضيع أوقاتنا فيما لا ينفع، وأن علينا أن نطلب العلم المفيد، وكنا، كشباب، نحبه جدا، ونطيب خاطره، ونتقبل نصائحه، ولأنه زاهد حقيقي، فقد كنا نقدره، رغم قسوته علينا، في بعض الأحيان، وبسبب هذا الشيخ، وأمثاله من الزهاد الحقيقيين، فإنني لا أستسيغ معارضة أتباع الإسلام السياسي، هذه الأيام، لكل جديد، ولكل حراك تنموي، فهم لا يخدمون الدين، بل يستخدمونه لخدمة أهدافهم السياسية، وللتشويش على المجتمع، وإثارة الفتنة، لأنهم ببساطة متناقضون، فهم أبعد ما يكونون عن الزهد، بل هم من أكثر طبقات المجتمع ثراءً، وتعلقا بالدنيا وملذاتها.
لو عارض ذلك الشيخ الزاهد أي حراك تنموي، لتقبلت ذلك، وتفهمته، أما أن يأتيني متأسلم حزبي متناقض، يتقلب في الدمقس والحرير، ويملك ثروات طائلة، ويسافر إلى كل مكان للسياحة باسم الدعوة، ويعيش أبناؤه في منتهى الرفاهية، ويقبل الحقائب المليئة بالهدايا من جهات خارجية، ومنظمات مشبوهة، ثم يعارض، باسم الدين، كل قرار تتخذه حكومتنا، التي لا يمكن أن تتخذ قرارا يتعارض مع الثوابت الدينية، فهذا يدخل في باب التمويه، ومحاولة الضحك على الذقون، واستخدام الدين لخدمة أهداف سياسية، وبالتالي فإن على أبناء مجتمعنا أن يحذروا من هؤلاء، فإن توجهاتهم وولاءاتهم مشبوهة، ولا يهمهم أمن الوطن والمواطن، لأنهم لا يؤمنون بالوطن أصلا، فكونوا على حذر، ولا يخدعنكم أصحاب المظاهر الزائفة، واللغة المعسولة، فهم، والذي نفسي بيده، ثعابين سامة، اللهم هل بلغت، اللهم فاشهد.