د.عبدالله البريدي
في مقابلته الأولى مع تلفزة عربية، تحدث ولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان عن جوانب أساسية في رؤية السعودية 2030، وذلك في اللقاء الخاص الذي عرضته قناة العربية ظهيرة الاثنين 25 أبريل 2016. تحليل الخطاب في تلك المقابلة يحتاج إلى مقالات مطولة وإلى قالب علمي، وهذا ما لا يمكن تحقيقه في مقالة صحافية. ولذا فإنني أقدم تحليلاً «خفيفاً» لبعض الأبعاد الرئيسة. قبل البدء بمثل هذا التحليل، أشير إلى جملة قالها شاب سعودي مبدع في مجال تقنية المعلومات (في نقاشات خاصة في مجموعة واتساب)، حيث يقول عبد العزيز الناصري بعد مشاهدته للمقابلة: «الأمير يفهم بعمق ما يتكلم عنه، وكأنه رئيس تنفيذي لشركة، ومندمج مع كل عملياتها». هذه رؤية شاب سعودي للأداء الاحترافي للأمير الشاب محمد بن سلمان.
ما جاء في المقابلة، يُعد بالفعل نقلة نوعية غير مسبوقة في الخطاب الحكومي السعودي، إذ يرتكز على مصطلحات علمية ومعايير مهنية؛ بلغة دقيقة، واحترافية عالية في التناول والمعالجة، مع قدرة كبيرة على استيعاب الصورة الشاملة (الرؤية) وتوصيلها والتعريف بأجزائها التفصيلية (برنامج التحول) وفق ما يتلاءم مع سياق الحديث. ولكي تسهل متابعة هذا التحليل سيكون على شكل نقاط مختصرة، مع وضع عناوين فرعية، وإثبات نصوص مقتبسة من المقابلة كما وردت في موقع قناة العربية، حيث نشرت نصاً كاملاً للمقابلة. وهذه النقاط هي:
1 - فك الارتباط التنموي والسيكولوجي مع النفط. تعد هذ القضية واحدة من أكبر القضايا التي أكد عليها خطاب الأمير، ففي بداية حديثة استدعى بذكاء التاريخ، قائلاً: «الملك عبد العزيز والرجال الذين عملوا معه في كل أنحاء المملكة، لما أسسوا دولة ما كان فيه نفط. أسسوها بدون نفط وأداروا هذه الدولة بدون نفط وعاشوا في هذه الدولة بدون نفط.. «، محذراً من النظر إلى النفط على أنه جزء من «دستورنا»، ويمضي الأمير مشخصاً الداء «نحن أصبحت لدينا حالة إدمان نفطية في المملكة العربية السعودية من قِبل الجميع، وهذه خطيرة، وهذه هي التي عطّلت تنمية قطاعات كثيرة جداً في السنوات الماضية». وخطاب الأمير لا يكتفي بفك الارتباط بالنفط فيما مضى، حيث يتوجه إلى تقويضه فيما نستقبله من أيام أيضاً؛ فقد شدد على أن رؤية السعودية لن تتأثر بمعاودة أسعار النفط الارتفاع، مؤكداً على «أن الرؤية لا تحتاج إلى أسعار نفط مرتفعة، بل تتعامل مع أقل أسعار النفط». وعوض الارتباط بالنفط، جهد خطاب الأمير لتأسيس ارتباط جديد بين السعوديين والتنمية، متمثلة برؤية تنموية طموحة، مع تأكيده القاطع على دور الجميع في تحقيق هذه الرؤية، قائلاً: «هذا مصيرنا كلنا كسعوديين. فلا بد لكل أن يقوم بدوره في الرؤية».
2 - اهتمام عال بتنمية الموارد البشرية السعودية. جسّد الخطاب اهتماماً واضحاً بمسألة تنمية الكفاءات البشرية الوطنية، سواء من حيث تهيئة العامل أو الموظف السعودي لسوق العمل، وتأكيد الأمير على تأسيس «شراكات مع شركات القطاع الخاص وشركات مملوكة بنسبة عالية للحكومة وشركات مملوكة للقطاع الخاص. إنه كيف نعمل برامج لتأهيل دخولهم إلى سوق العمل. مخرجات التعليم وربطها باحتياجات السوق والرؤية المستقبلية واحتياجات السنة القادمة»، مع السعي لتخفيض البطالة بطرق لم يأتِ عليها الخطاب بالتفصيل.
3 - الشفافية والحوكمة والرقابة الشعبية والمهنية. من الجوانب اللافتة في خطاب الأمير تأكيده على حتمية الربط العضوي بين تحقيق تنمية حقيقية والوفاء بالشفافية بمعناها المهني بما في ذلك الحوكمة بكل أبعادها المالية والإدارية والقانونية والإجرائية. وقد ظهر ذلك في زوايا كثيرة جداً في هذه المقابلة. ومن ذلك، عند سؤاله عن مسألة تخصيص أرامكو والفوائد المتحققة، بادر بالقول «أهمها وأول شيء الشفافية». ثم راح يقول: «كان الناس في السابق يتضايقون أن ملفات وبيانات أرامكو غير معلنة. غير واضحة، غير شفافة. اليوم بتصير شفافة. إذا طرحت أرامكو في السوق يعني لازم تعلن قوائمها.. وتصير تحت رقابة كل بنوك السعودية وكل المحللين والمفكرين السعوديين». وفي حديثه عن تطوير صندوق الاستثمارات العامة، يقول: «.. الحوكمة حقت الصندوق بتكون واضحة للجميع.. أنا رئيس مجلس إدارة صندوق الاستثمارات العامة. القرار ليس عندي. القرار لدى المجلس وفق الآلية والحوكمة التي تطلق وتعلن للجميع». وفي حديث مشابه، يذكر الأمير: «اليوم احنا في مجتمع صعب أنك ما تكون شفاف، وصعب تخفي سر على المجتمع في العصر الحديث. فمهم جداً توفير المعلومة للجميع. المواطنين أو القطاع الخاص أو العالم كله، لكي يكونوا جزءاً من النقاش والحوار فيما يدور داخل وطنهم، فالشفافية مطلوبة جداً، لأنها داعم قوي جداً كرقابة وكدعم قرارات الحكومة وإجراءات الحكومة». الكلام السابق، يشير إلى مسألة جوهرية هي الأخرى، وهي جديدة في الخطاب الرسمي السعودي، وهي تدعيم «الرقابة الشعبية» (إصلاح سياسي)، بجانب تعزيز «الرقابة المهنية» (إصلاح مهني). وثمة جهة أخرى مؤكدة على جوانب من الشفافية والرقابة الشعبية والمهنية، حيث نص الأمير على أن أرامكو بعد التطوير سيكون لها «مجلس إدارة منتخب» من قبل الجمعية العمومية المشكّلة من الملاّك، وتشديده أكثر من مرة على «الحوكمة»، التي سوف تُعلَن للجميع، وستكون المرجع في اتخاذ كافة القرارات والتقييم ونحو ذلك.
4 - الأحلام التنموية المحلّقة والطموح العالي والمعايير المرتفعة. في المقابلة العديد من القضايا التي ذكرها الأمير وتؤشر على تلك المسائل. منها على سبيل المثال، تكراره لكلمة «الكرة الأرضية»، حيث يشير إلى أن طموحه يتثمل في تحقيق سبق وتميز وريادة على مستوى العالم كله في الجوانب التي نصت عليها «أحلامنا التنموية» كما في الرؤية 2030. ومن تلك المواضع، قوله: «البيانات الأولية تتكلم أن الصندوق سوف يكون أو يسيطر على أكثر من 10% من القدرة الاستثمارية في الكرة الأرضية.. سوف يقدر حجم ممتلكاته بأكثر من 3% من أصول موجودة في الكرة الأرضية». وفي سياق الأحلام التنموية المشوبة بطموحات كبار، يعزز الخطاب هذه المسألة بالقول: «عندنا القوة الاستثمارية الرائدة في العالم.. تكون أضخم صندوق في الكرة الأرضية.. راح يكون محرك رئيسي للكرة الأرضية وليس فقط على المنطقة. لن يكون هناك أي استثمار أو حراك أو تنمية في أي منطقة من مناطق العالم إلا بصوت الصندوق السيادي السعودي..». سؤاله المتكرر بصيغة «هل يعقل..»، يؤكد على مسائل عديدة، ومنها «الشفافية»، و»روح التحدي»، و»الرغبة الجموح في التغيير». ومما يعزز كل ما سبق، قوله: «طموحنا سوف يبتلع هذه المشاكل، سواء من بطالة أو إسكان أو غيرها من المشاكل. طموحنا كيف نكوّن اقتصاداً أكبر من الذي نحن فيه اليوم.. كيف نكون فخورين في وطننا. كيف وطننا يكون جزءاً مساهماً في تنمية وحراك العالم على المستوى الاقتصادي أو المستوى البيئي أو المستوى الحضاري أو الفكري... إلخ. هذا طموحنا، ومستعدون نقدم الكثير للسعودية وللعالم..». ومن جانب آخر، أشار الأمير إلى وجود هدف الوصول «إلى 50% من المشتريات العسكرية من الداخل من التصنيع السعودي»، من خلال تعزيز الصناعات العسكرية في السعودية، مؤكداً على رغبة الوصول إلى كون الجيش السعودي ضمن أفضل 20 جيشاً، وبخاصة أن السعودية تحتل المرتبة الثالثة أو الرابعة في الإنفاق العسكري، ونقده الصريح للبذخ في إنفاق غير مبرر في هذا المجال (التشطيب خمسة نجوم كما قال).
5 - تنافسية عالية في الرؤية على أرضية صلبة. ترتكز الرؤية التي عكسها الخطاب على جانب الفرادة الشديدة في التنافسية، حيث تقوم على ثلاثة مرتكزات، يؤكد فيها الأمير على أنه: «لا أحد ينافسنا عليها»، وهي: العمق العربي والإسلامي (بوجود الحرمين الشريفين وكون الجزيرة العربية منبعاً للعروبة)؛ والقوة الاستثمارية العالمية (بوجود الإمكانيات الهائلة والعقلية الاستثمارية السعودية)؛ والموقع الإستراتيجي (بكون المملكة تربط بين ثلاث قارات عبر أهم ثلاثة مضايق بحرية في العالم ومرور البضائع بمئات المليارات).
6 - محاربة البيروقراطية المقيِّدة. من الجلي أن الرؤية التنموية تقتضي هجراً لمثل هذه البيروقراطية، حيث يؤكد الخطاب على ذلك، ومنه قول الأمير: «نحن أعداء البيروقراطية السلبية.. احنا نبغي بيروقراطية سريعة التي تساعد على اتخاذ القرار وتنجز القرار في الوقت المناسب..، مشيراً إلى خطوات إعادة الهيكلة الإدارية التي وجه بها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان.
7 - المزاوجة بين الإصلاح السريع والإصلاح الجذري. حرص الأمير في خطابه على التأكيد على أن الرؤية التنموية تتطلب تحقيق نوعين من الإصلاحات: إصلاح سريع Quick Fix، وإصلاح جذري، مشيراً إلى أن 2015 كان عاماً للإصلاح السريع، في حين أن 2016 كان مجالاً لإصلاح سريع ولكنه ممنهج ومخطط له أكثر، أما 2017 فعلى حسب قوله «راح يكون جزء داخل في الرؤية والبرامج المنطلقة من الرؤية».
8 - حديث عابر ولكنه مهم عن الترفيه والثقافة. لم تخلُ المقابلة من بعض الحديث عن الجوانب الثقافية والترفيهية في المجتمع السعودي، وفق ما راه ملائماً للسياق المجتمعي الحالي على ما يبدو، وبما يتناسب أيضاً مع مقابلة مختصرة كهذه، مشدداً على أن «الترفيه والثقافة سيكون رافداً مهماً جداً في تغيير مستوى معيشة السعودي، خلال فترة قصيرة».
9 - استثمار للتاريخ وعناية فائقة بالإرث الحضاري. مع التشديد الواضح من قِبل الأمير على أن «التاريخ الإسلامي هو أهم مرتكز ومنطلق لدينا»، إلا أنه أكد في الوقت ذاته على حقيقة أن المملكة تمثّل ما يمكننا وصفه بـ «فسيفساء حضارية»، حيث أشار إلى أنه «عندنا عمق تاريخي ضخم جداً، ويتقاطع مع الكثير من الحضارات. التاريخ العربي آلاف السنين هو تاريخ الكلمة وتاريخ المبادئ وتاريخ القيم، وهو لا يضاهيه أي تاريخ ولا حضارة في العالم.. عندنا جزء من الحضارات الأوربية... عندنا حضارات مندثرة مهمة جداً، عمرها آلاف السنين. يجب أن نستغل هذه الحضارات، ونستعملها بشكل أو بآخر»، مع الإشارة إلى أنه سيفتح المجالُ للسياح؛ بما يتوافق مع الأطر القيمة والثقافية.
10 - الوعي بالاستحقاقات والآثار واعتماد فلسفة التدرج. عكس الخطاب قدراً من الوعي بما يمكن أن يترتب على بعض الخطوات التنفيذية ذات الصلة بالرؤية، فمثلاً عند حديث الأمير عن وجود ما يزيد على 70 مصدراً محتملاً للإيرادات، شدد على أنه لا يمكن استغلالها جميعاً دفعة واحدة، حيث إن لذلك تبعات اقتصادية وسياسية واجتماعية، مركزاً فقط على تلك التي لا تبعات عليها. ونستنتج من هذا الأمر من جهة أخرى أن الخطاب يؤمن بالتدرج وبضرورة تحقيق الأهداف بطريقة مرحلية، مع النص على أنه: «سوف يُعاد تجربة الخطة الخمسية، بناء مع يتوافق مع الرؤية.. أغلب البرامج تكون برامج لخمس سنوات، نحقق الموجة الأولى من العمل وإنجاز الرؤية في الخمس سنوات القادمة، ثم نبدأ في برامج أخرى لخمس سنوات التي تليها..».
11 - الوعي بأهمية ضمانات تنفيذ الرؤية. هنالك ضمانات عديدة لتنفيذ أي إستراتيجية بشكل محكم، وبالذات الإستراتيجيات التنموية النهضوية على مستويات الدول. أبان الخطاب وعياً بضرورة توفير بعض تلك الضمانات، ومن ذلك تأكيد الأمير بالقول: «الآن أصبح في مستوى عال جداً من الحوكمة في رأس الهرم»، مشيراً إلى أهمية وجود «مكتب تنفيذ المشاريع» PMO لدى مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، مع إصدار الملك قراراً بتأسيس مركز تقييم الأداء الحكومي، بحيث يقوم بتسجيل الأهداف والخطط لكل جهة حكومية وتحويلها إلى أرقام وإلى قياس أداء دوري، كل ربع سنة، مع رفع التقرير ربع السنوي إلى مجلس الوزراء، ومراجعة الخلل وكيفية معالجته.
12 - انحياز لدعم الطبقات الوسطى والمحتاجة. شدد الخطاب على أن الدعم الحكومي سيتوجه للطبقات الوسطى وما دونها، مُعرِضاً عن احتمالات غضب «الفئات المتمكّنة» - بحسب ما جاء في السؤال-، حيث قال الأمير: «والله أنا راح أطبقها على نفسي، والذي لا يرضى يصطدم بالشارع»، مؤكداً على أن ذلك سيطبق على الجميع من الأمراء والوزراء، وأن ذلك يخرج من كونه وعداً شخصياً إلى كونه واجباً متحتماً علينا القيام به. وهنا نجد لفتة مهمة بأن الرؤية المطروحة هي «رؤية وطنية» متجاوزة الارتباط بأشخاص معينين.
13 - محاربة جادة للفساد. رسّخ الخطاب التوجه الحكومي الأكثر صرامة من أجل مجابهة الفساد، وقد أبدى الأمير بشكل جلي عدم الرضا عن أداء هيئة مكافحة الفساد في السابق، مع إقراره بوجود الفساد في كل المجتمعات بنسب متفاوتة، وتشديده على أنه من المهم أن: «نكون اليوم في مقدمة الدول في مكافحة الفساد وأقل نسب فساد في العالم»، معتقداً بأن «الخصخصة هي جزء مهم جداً. مثال الصناعات العسكرية. الشركة مطروحة بالسوق. لا أراقب. الشعب يراقب. أرامكو المؤسسة الدولية تراقب»، ونلحظ هنا استدعاء آخر لـ «الرقابة الشعبية» (وهو جزء من الإصلاح السياسي). أفصح الخطاب عن توجه جديد، حيث أشار الأمير إلى أن المهم هو: «ليس ملاحقة الفاسدين بقدر ما هو إعادة هيكلة العديد من الإجراءات، التي سوف تجعل الفساد أصعب».
هذه وقفات تحليلية سريعة لبعض مضامين تلك المقابلة المهمة التي تُشكّل «البعد النظري» في رؤية السعودية 2030، ومن المؤكد أيضاً أن ثمة جوانب أخرى من الإصلاح في سياق هذه الرؤية التنموية لم يتم التطرق لها في خضم هذه المقابلة المختصرة، على أنه من الضروري استمرار الحوار المجتمعي بنفس علمي هادئ وأسلوب نقدي إيجابي، لإنضاج الرؤى والفهم حيال كافة المتطلبات التي نحتاجها لإحداث نهضة سعودية كبيرة بتطبيق مثل هذه «الرؤية الحلم»، «الرؤية الملهمة»، التي يجب ألا نحفظها فحسب، بل نناضل من أجل تحقيقها: «السعودية.. العمق العربي الإسلامي.. قوة استثمارية رائدة.. ومحور ربط القارات الثلاث».