د.عبدالله البريدي
(1)
تقدم الجامعات السعودية منحاً للطلبة المسلمين للدراسة المنتظمة في مراحل البكالوريوس والدراسات العليا، مع التركيز بشكل أكبر على تخصصات العلوم الشرعية والعربية، حيث يدرس في المملكة آلاف الطلبة من أكثر من 155 دولة
(وفق تقرير لوزارة التعليم، 2014)، وهذا أمر إيجابي للغاية ويجب تكريسه وزيادته. وتجربة «طلبة المنح» ثرية في أبعادها وتستحق دراسات معمقة من جوانب عديدة، وفي هذا المقال سأسلط الضوء على جانب منها.
(2)
يحدثني أستاذ أدب في إحدى الجامعات السعودية عن تجربته في تدريس مقررات أدب لبعض طلبة المنح، فيقول: حين أعرض لهم بعض النصوص لهذا الشاعر أو ذاك، يفاجئني بعض طلبة المنح بالسؤال: وما عقيدته يا دكتور؟ أهو أشعري؟ أم معتزلي؟ أم ...؟؟ ويذكر أحوالاً أخرى وهيئات لهم؛ تنبئ عن موجات تشدد ديني لديهم، كالإنكار على «نغمة الجوال» (بدعوى أنها موسيقى)، وما إلى ذلك؟
لا حظوا أن المقرر أدب ولا علاقة له إطلاقاً بما يعرف بـ «البعد العقدي»، فكيف تربوا على هذا النوع من «التفكير الفارز»، ومن علمهم «التصنيف التحزبي»، ومن لقنهم «فنون الإنكار» على هذه الأمور الصغيرة المختلف حولها؟ هل ثمة مصلحة لنا في تعبئتهم عقدياً وفقهياً بمثل هذه الطريقة؟!
(3)
الوصف السابق للزميل الكريم، عاينت شيئاً منه بنفسي في عدد من الجامعات السعودية، فمثلاً رأيت طلبة أوربيين وكأنهم من «الخبيبية» في بريدة.. وشاهدت آخرين مشابهين لهم في مناطق مختلفة.. وسألت بعض الزملاء عن هذه الظاهرة، فأبدوا تخوفهم منها، فبعض طلبة المنح يحمل فكراً دينياً متطرفاً أو متشدداً، مما يجعلهم لا يصلحون لأي عمل بنائي ونهج إصلاحي في بلدانهم، إذ يميلون إلى الانكفاء على «ذواتهم الخيرة» وممارسة ما يسمونه بـ «المفاصلة»، أي المفاصلة عن المجتمعات المنحرفة، والمبتدعة وربما الكافرة (في نظرهم المتشدد)! وربما تجاوزوا ذلك إلى ما هو أسوأ وأخطر!
ومثل هذه الظاهرة تستحق معالجة سريعة من قبل وزارة التعليم، ضمن برنامج تطويري شامل ومستدام؛ وفق منظور إستراتيجي. وهنا أؤكد على جملة من النقاط المهمة، عند الشروع في المدارسة والتقييم والتطوير:
أولاً: الأطر التعليمية والتربوية: ثمة حاجة ماسة للإسراع في التأكد من سلامة البرامج والفعاليات التعليمية سواء أكانت في الجامعات أو في المساجد، فثمة رعاية لبعض منسوبي الجامعات لهؤلاء خارج الجامعة في دروس في المساجد، على أن يشمل ذلك فحص الفعاليات التربوية المصاحبة للتأكد من خلوها من أي أفكار دينية متشددة أو سلوكيات متطرفة، بشكل مباشر أو غير مباشر.
ثانياً: المحافظة على الهوية الجماعية: من الجوانب الأساسية التي تضمن قبول مجتمعات الدول الإسلامية للطلبة الذين جاؤوا للدراسة عندنا المحافظة على «الهوية الجماعية»، ومن ذلك ما يتعلّق بالزي الذي يستخدمه الطلبة، فليس مقبولاً من الناحية الاجتماعية أن يغادر الطلبة بلدانهم بزيهم الوطني ثم يعودون بالثوب العربي! وفي أحايين كثيرة، يكون ثوباً قصيراً، مما يوجد وحشة وتوجساً من هؤلاء «الوافدين الجدد». وعلى هذا، فإنني أرى التعميم بضرورة المحافظة على الأزياء الوطنية للطلبة وعدم دفعهم ولا تشجيعهم بل لا أرى السماح لهم بارتداء الثوب العربي في رحاب الجامعة، لتكريس مسألة الهوية الجماعية، والتشديد على أننا نقبلكم كما أنتم؛ بزيكم وأشكالكم (الهدي الظاهر)، وبأن مجتمعاتكم تنتظركم بنفس الزي والهيئة التي هي عليها، فالإسلام أكبر من مجرد زي خارجي وأعظم من شكل ظاهري.
ثالثاً: دراسة سبل وقنوات اندماج طلبة المنح في المجتمع السعودي، إذ ثمة فائدة لتطوير آليات وبرامج، لتفعيله والإفادة من الخبرات التي يمتلكها أولئك الطلبة، بما في ذلك «الذخائر اللغوية» والأبعاد الثقافية، على نحو يعود بالنفع على كافة الأطراف، وبما يعزّز التعاون المستقبلي معهم في مختلف الجوانب العلمية والعملية.
رابعاً: تنفيذ دراسات طولية: من المهم دعم الوزارة لتنفيذ دراسات طولية للتعرّف على مسارات اندماج طلبة المنح في مجتمعاتهم، وتحديد مستويات فعاليتهم وقدراتهم في الوصول إلى مراتب ودرجات قيادية في مختلف المجالات، والتعرّف على المعوقات التي تحول دون تحقيقهم للفعالية المستهدفة، مع وضع التوصيات اللازمة.
خامساً: بناء قاعدة بيانات مشتركة: لا يمكن اتخاذ قرارات دقيقة إلا بناءّ على معلومات متكاملة ومتراكمة، ولهذا فإنني أرى ضرورة بناء قاعدة شاملة للبيانات لهؤلاء الطلبة؛ على أن تتضمن آلية لمتابعة مساراتهم المهنية والتواصل معهم بطريقة فعَّالة، مع إتاحة الفرصة بالدخول لهذه القاعدة لمختلف الأطراف ذات العلاقة؛ وفق صلاحيات وإجراءات محددة.
(4)
نحن نمتلك مرجعية إسلامية راسخة؛ بوجود الحرمين الشريفين وخدمتهما، كما أننا نتوفر على إسلام معتدل؛ يمكننا تصديره عبر هؤلاء الطلبة الذين قدِموا لنا بصفحات؛ يمكن ملؤها بالتدين المتوازن، والخلق الرفيع، واللغة الراقية، والتفكير المعمق، والأداء العالي، والتطوع المجتمعي، والسلوك الحضاري. هم سفراء لنا في دولهم، فلننظر كيف نصنّع سفراءنا، ولننظر كيف نخطط لفعاليتهم المجتمعية المنتظرة في مستقبل أيامهم؛ بما يسهم في: تحقيق رفاهية مجتمعاتهم ونموها، ويجذر للوسطية، فكراً وسلوكاً، ويعزز التعاون الاقتصادي والعلمي والثقافي بين بلداننا.
إذن، وقفة منتظرة سريعة من وزارة التعليم لهذا الملف المحوري، والعمل على التنسيق مع كافة الجهات ذات الصلة، مع تأكيدي على أن يكون ضمن برنامج تطوري شامل برؤية إستراتيجية ثاقبة، بما في ذلك الإفادة من التجارب والممارسات الدولية الناجحة.