د.عبدالله البريدي
تعليم اللغة العربية يعاني من نقط ضعف جوهرية ويواجه تحديات ضخمة، سواء أكان هذا التعليم للناطقين بها أو لغير الناطقين بها. في الفترة السابقة، بذلت جهود كبيرة من قبل جامعات ومؤسسات علمية وباحثين ومعلمين ولا تزال هذه الجهود المشكورة مبذولة، وقد حققت قدراً جيداً من التطوير والتحسين في بعض المسارات، إلا أنها لم تصل إلى المستوى المطلوب في أبعادها التدريسية والفنية؛ من جهة تأهيل المعلمين وبناء المناهج والمقررات واستخدام الوسائل التعليمية الحديثة، بما يزيد حصيلة التعلّم ويثري «الذخيرة اللغوية» لدى دارسي العربية.
ومثل هذا الضعف الجوهري في تعليم العربية في عالمنا العربي والإسلامي، يقابله تقدّم مدهش في تعليم بعض اللغات الأجنبية، وعلى رأسها اللغة الإنجليزية، الأمر الذي يسّر عمليات تعلّم الإنجليزية وجعل تعلّمها ممارسة محببة للنفوس، مع ارتفاع «المردود اللغوي» وقدرة المتعلّم لها على استخدام الإنجليزية في سياقات حياتية وعلمية، بعد فترة زمنية قصيرة نسبياً. وما كان ذلك ليحدث، لولا الجهود العلمية التراكمية الموفقة التي تبنتها الدول الناطقة بالإنجليزية وعلى رأسها بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، حيث دعمت مشاريع التطوير في مجال تعليم الإنجليزية في مسارات تأهيل المعلمين ووضع معايير عالية لذلك، واعتماد منهجية علمية دقيقة لبناء المناهج والمقررات وطرائق التعليم والتعلّم الذاتي والتقييم، والتوسل بأحدث الأساليب التعليمية الحديثة باستخدام التقنية والمعلوماتية.
بات من المعلوم لنا بالدليل والبرهان أن تلك الدول تستخدم الإنجليزية لفرض ثقافتها وتعزيز اقتصادها، فالإنجليزية تضخ مئات المليارات في خزائنها، مما جعلها تقدّم الدعم الكبير لتعليمها ونشرها. يذكر «سكوت مونتغمري» في كتابه الشهير الخطير «هل يحتاج العلم إلى لغة عالمية؟» (سلسلة عالم المعرفة، 2014) أن عدد دراسي اللغة الإنجليزية سيبلغ قرابة المليارين بحلول 2020، وأنها قد أضحت اللغة الأكثر تدريساً في المدارس الابتدائية والثانوية في أكثر من 130 دولة، مع تزايد اعتماد الإنجليزية في التعليم الجامعي ونحو ذلك من المؤشرات التي تؤكّد أن ثمة توسعاً كبيراً لها مبنياً على رؤى إستراتيجية. وقد نفى المؤلف - دون أدلة مقنعة - تهمة أن الحكومات والشركات الأمريكية والبريطانية تتخذ من نشر الإنجليزية معبراً «كوسيلة للاستعمار الاقتصادي» (ص 89).
ولو عدنا إلى اللغة العربية فإنه يمكننا القول بأننا مطالبون بدعم تعلمها وانتشارها لأبعاد دينية وثقافية من حيث الجوهر، فبلدنا هو قلب الإسلام ومنبع العروبة، ولا يمنع أن نضيف إليها أبعاداً اقتصادية تنموية، فالمملكة مرشحة لأن تكون مصدراً لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، مما يصنع مورداً اقتصادياً كبيراً يسهم في تنويع قاعدة الاقتصاد الوطني، الذي يعد لبنة رئيسة في مشروع الإصلاح الاقتصادي الكبير الذي تشهده المملكة في هذه الفترة، فضلاً عن كونه يمثِّل نافذة لما يمكن أن نسميه بـ «التسويق الحضاري» للمملكة، فالدارسون سيتعلمون أكثر عن ثقافتنا وتسامحنا وترحيبنا بالتنوّع الثقافي.
لا يمكن تحقيق هذا الهدف الإستراتيجي دون بلورة مبادرة كبرى في مجال تعليم اللغة العربية، على أن تراعي المبادرة جملة من الأمور، ومن أهمها:
1 - الوضوح والدقة في بلورة الرؤية والرسالة والأهداف للمبادرة.
2 - تكامل مسارات المبادرة، بحيث تشمل الأبعاد الرئيسة في تعليم اللغة العربية (معلم ومنهج وطرق ووسائل تدريس).
3 - شمولية المبادرة لمساري تعليم العربية للناطقين بها ولغير الناطقين بها.
4 - دعم المبادرة بميزانية كافية.
5 - ضمان المرونة في عملية الصرف على المشروع وفق إجراءات محاسبية واضحة.
6 - الوضوح والدقة في تحديد المخرجات.
7 - وجود آلية واضحة لتنفيذ المبادرة، مع تكليف كيان مناسب للقيام بذلك.
8 - وجود آلية فعَّالة للمتابعة والتقييم للأعمال والمخرجات.
9 - وجود آلية واضحة للتنسيق والتكامل مع المؤسسات الناشطة في هذا المجال، بما يعين على إحداث التراكمية بين الجهود والمخرجات، إذ لا يسوغ إطلاقاً تكرار بعض الأعمال أو المخرجات، وإنما البناء على ما هو موجود، إن كان عميقاً ناضجاً.
10 - وضوح ودقة الضوابط والمعايير لافتتاح مؤسسات تعليم العربية لغير الناطقين بها.
تعد المملكة من أكبر الدول العربية التي تمتلك مقومات النجاح لتنفيذ هذه المبادرة، وتزخر بمؤسسات علمية مرموقة لها خبراتها التراكمية في هذا المجال، ولها جهود معروفة مشكورة في تعليم العربية في أصقاع الأرض. أجزم بأن مبادرة كبيرة كهذه ستحقق «مزايا تنافسية مستدامة» في الفضاءات الاقتصادية والتنموية، فضلاً عن «التسويق الحضاري» والقيام بجزء من واجبنا الديني والثقافي تجاه اللغة العربية وتعزيز فعاليتها الحضارية، ويمكن أن تُسمى هذه المبادرة بـ «مبادرة الملك سلمان لتعليم اللغة العربية». نعم، لقد حان وقت تبني مبادرات نوعية كهذه، وكم سيكون رائعاً لو وضعنا في حسابنا حجم ونوعية النتائج الإيجابية التي يمكن أن تتحقق في السنوات القريبة القادمة من جراء تنفيذ هذه المبادرة الخلاَّقة.