د.عبدالله البريدي
بات من المؤكد أن توليد ثروات اليوم والغد يتكئ على قدرة الدول على خلق المعرفة وإدارتها وإعادة تشكيلها وتنظيمها واستخدامها في قوالب تشبع «النهم المعلوماتي» والاحتياجات المتزايدة للإنسان المعاصر، على نحو يدر إيرادات من هذه القوالب المعرفية.
ومن الواضح أنه سيكون للمعرفة القدح المعلى في إنتاج الثروات وبناء الاقتصاديات الحديثة وتوليد الوظائف وامتلاك أسباب القوة طيلة عقود القرن الحادي والعشرين، فالبقاء سيكون لـ«الأعرف» و«الأبدع».
إنه قرن المعرفة، وكفى. وتأثير المعرفة سيزداد من جراء التحام الثورة العلمية مع الثورتين التقنية والمعلوماتية، وهنالك تنامٍ للمؤشرات الدالة على ضخامة «التأثير التضافري» Synergistic Effects لاندماج التقنية الحيوية والتقنية النانوية والتقنية المعلوماتية وانعكاس كل ذلك على الحياة البشرية في مستقبل أيامها بما في ذلك توليد الثروة واستملاك مصادر القوة في هذا القرن.
المعرفة الإنسانية شبت عن الطوق، وخرجت من القمم، ولا أحد يستطيع كبح جماحها لو أراد، حتى لو كانت تتطور في مسارات غير مرغوبة، وهذه إشكالية كبرى نواجهها على المستوى الإنساني، ولا يهمني في هذا المقال معالجة هذه المسألة.
المعرفة، إذن في نمو مستمر. المعرفة - كما في تعبير «كارل بوبر» - تقدم فتوحات واكتشافات وإنجازات علمية تحمل بذور تخطئتها، الأمر الذي يتيح لكافة الأجيال البشرية الحق في تقديم معرفة جديدة (نبيل علي، العقل العربي ومجتمع المعرفة، 2009).
وفي سياق استعداد السعودية لإطلاق رؤيتها الإستراتيجية وتبنيها لبرنامج تحول وطني طموح، يلزمنا طرح سؤال جوهري حول مدى وجود «معرفة سعودية»، هل توجد مثل هذه المعرفة التي تولّد لنا إيرادات تسهم في تنويع مصادر اقتصادنا الوطني؟. وهنا أنوه إلى شيء مهم، وهو أنني بطرحي مفهوم «المعرفة السعودية»، لا أقصد إطلاقاً صبغ مفهوم المعرفة بالنزعة الثقافية المجتمعية أو النزعة الأيدولوجية، وإنما أشير إلى «المعرفة المولدة للثروة» التي ننتجها نحن في السعودية عبر باحثينا ومبدعينا ومخترعاتنا ومنتجاتنا ومنظماتنا، من خلال برامج خلق المعرفة الجديد وإدارة المعرفة القديمة وإعادة تشكيلها واستخدامها بقوالب مبتكرة مربحة. إذن، مفهوم «المعرفة السعودية» يساوي في الدلالة مفهوم «المعرفة الوطنية» أو «الذخيرة المعرفية الوطنية»، أي المعرفة التي ينتجها وطننا السعودي، وتسهم في إكسابه إيرادات جيدة دائمة.
هل ثمة معرفة سعودية؟ جوابي على هذا السؤال المحوري: نعم أرى معرفة سعودية مولِّدة لقدر من الثروة بطريقة مباشرة وغير مباشرة. وحين نجيب بالإيجاب حول مدى وجود معرفة سعودية، فإنه يتوجب علينا التأكيد على التمييز بين: امتلاك أو توفر المعلومات لدينا، وقدرتنا على خلق المعرفة وإدارتها بطرقة تدر إيرادات. يلفت أنظارنا المفكر المرموق الدكتور نبيل علي إلى مسألة خطيرة وهي أن المجتمعات في العقود الماضية كانت تعاني من «الندرة المعلوماتية»، في حين أنها تشكو حالياً من «طوفان معلوماتي» (المرجع السابق له).
ومن هنا، فأرجو ألا يتوهم البعض أن بإمكاننا أن نعد المعلومات المتوفرة لدينا بشكل أو بآخر على أنها ضمن «الذخائر المعرفية السعودية» المدرة للإيرادات. المعلومات كالرمال التي نتوفر عليها في أراضينا وصحارينا، وأما المعرفة فهي كالزجاج الذي ننتجه من تلك الرمال، وشتان بين رمال لا قيمة لها، وزجاج فاخر نادر؛ له أثمانه وأسواقه. ولكي أكون صريحاً، أقول بأن بعض جامعاتنا ومؤسساتنا البحثية توهِم المجتمعَ بأننا نمتلك قصوراً في مدن المعرفة، وهذا وهم، فنحن لم نقدم ما يكفي من العمل لامتلاك مثل هذه القصور.
صحيح أنه لدينا آلاف الدراسات والأبحاث التي أنتجت من قِبل الباحثين ومساعدي الباحثين وأشباه الباحثين أيضاً في العقود السابقة، إلا أن نتاجنا البحثي الرصين - الأساسي والتطبيقي - لا يزال يحبو، بل إنه لم يزل أجنة في أرحام المشاريع الورقية التي لم تر النور بعد، أو مجرد حلام بحثية التي لم تترجم إلى واقع ملموس، أو أنها ما تزال خارج أجندة تفكيرنا وأولوياتنا البحثية. وصحيح أيضاً، أن لدينا مئات المراكز والإدارات والوحدات التي تتخذ أسماء ذات علاقة بالفعل البحثي وبالدراسات، فحتى الجمعيات الخيرية البسيطة لديها «وحدات بحوث ودراسات»، وهي ربما لا تختلف كثيراً عن ما تسميه بعض جامعاتنا زهواً وانتفاخاً بـ«أودية التقنية» و«واحات المعرفة» و«مراكز الاختراع»، ونحو ذلك من الأسماء البراقة والمظاهر الشكلانية التي قد توهمنا بأننا سائرون على جادة البحث العلمي المنتج والمدر للإيرادات والمعين على تشخيص المشاكل والتحديات وبلورة أنجع الحلول.
وفي وضع هكذا، لا أرى أي مبالغة فيما لو قال أحد بأننا «نعيش تخمة بحثية ومسغبة معرفية».. نحن لم ندخل بعد قرن «المدن المعرفية»، إذ لا توجد أي مدنية سعودية تحقق إيرادات ضخمة عبر المعرفة التي تخلقها وتديرها، و«الإيرادات المعرفية» لا تشكّل نسبة تذكر من دخلنا الوطني. نحن لا نريد أن نعيش فيما يشبه «عشوائيات المعرفة» مع انخداعنا بأننا في مخططات منتظمة ومعتمدة من قبل «السلطة المعرفية».
نحن نمتلك بعض المقومات والإمكانيات ولدينا بعض البحث الجيد وبعض المعرفة التي تدر إيرادات أو التي يمكن أن تدر إيرادات، هذه حقيقة، ولكن الطريق طويل وشاق، والرؤية الملهمة يجب أن تكون حاضرة وموجهة للتفكير البحثي والقرار المعرفي، مع تشريعات مشجعة وآليات ميسرة، وضبط وتقنين، يعين على إعادة ضبط البوصلة البحثية بالاتجاه الصحيح؛ بما يوصلنا إلى الكنوز المعرفية، فهي مشاعة لكل من يطلبها بجد وتفانٍ.
ولكوني تحدثت عن بعض الجوانب ذات العلاقة بالجامعات السعودية، أشير هنا إلى أنني لا أتفق مع بعض الطروحات التي تذهب إلى تأييد تأسيس «جامعات أجنبية» في بلدنا لعلاج مشكلة الضعف التعليمي وربما البحثي في الكثير من جامعاتنا السعودية، فتجربة الجامعات الأجنبية في أكثر الدول غير مشجعة على الإطلاق، فالأجانب يأتون من أجل الغلة، والغلة فقط؛ مع تكاسل جلي في مسارات توطين المعرفة وإكساب مواطني الدول المضيفة لمهارات البحث العلمي الرصين وتمكينهم من أسرار العلوم وبوابات المعرفة.
لا أرى إطلاقاً السير في هذا الاتجاه الخطير، والذي يرسخ كل أنواع التبعية، ويخلق أجيالاً من الموالين لهذه الجامعات الأجنبية ولتوجهات دولها وأجندتها في مسارات سياسية واقتصادية وثقافية، لدرجة أن البعض - وهم محقون - يعدون ذلك ضرباً من «الاحتلال الأكاديمي».
آمل ألا يخطئ الإخوة في التعليم العالي، كما أخطأ زملاؤهم في التعليم الفني، حين جلبوا ما يُسمى بـ«كليات التميُّز» الأجنبية، فالمحصلة ضعيفة وباهتة جداً، مقابل ما صرف عليها من أموال ضخمة وما أُطلق حولها من دعايات رنانة.
أرجو ألا تفتح هذه النافذة أبداً، فالأجانب لا يحكون غير جلودهم.. وما يحك جلود مشاكلنا غير أظفارنا البحثية، فلنلتفت، إذن، إلى جامعاتنا ومؤسساتنا تقويماً وتطويراً؛ في: قياداتها العليا، وأساليب إدارتها، وآليات تشغيلها، وبرامج تعليمها وأبحاثها، مع جلب العلماء والباحثين والأكاديميين المرموقين من أصقاع العالم، فأنا ضد «سعودة العلم» و«سعودة الجامعات».
وللحديث بقية عن «المعرفة السعودية»، الجالبة للإيرادات والمعينة على تنمية حقيقية مستدامة.