د.عبدالله البريدي
نحن نعيش في «قرن المعرفة»، هذا القرن الذي أوجد صياغة جديدة للوجود الإنساني الكريم، مفادها: «أنا أعرف، إذن أنا موجود». في مقال سابق، أجبت على سؤال: «المعرفة السعودية».. هل أحد يراها؟
بأنني أرى قدراً من المعرفة السعودية التي تولّد إيرادات، بيد أنها معرفة ضئيلة، ولا تشكل إيراداتها نسبة تذكر في اقتصادنا الوطني.. المعرفة السعودية المنُتجَة لا تكفي البتة لتأسيس منصة قوية لاقتصاد معرفي حقيقي، قادر على تنويع مصادر دخلنا في السنوات القادمة. ومثل هذه المعرفة تستند بالأساس إلى البحث العلمي التطبيقي Applied في مجالات مستهدفة، مع قاعدة صلبة في العلوم الأساسية؛ وفق أولويات بحثية دقيقة، وتراكمية علمية كافية، وعلاقات وطيدة مع الصناعة وقوالب التمويل والتنفيذ؛ بجانب الأفكار الخلاّقة، في سياقات التقنية والمعلومات والاتصالات، بطريقة تمكننا من إيجاد منتجات مدرة للإيراد المستديم.
وبخصوص البحث التطبيقي، أشير إلى أن هنالك ضعفاً جلياً في «المنظومة البحثية السعودية» سواء أكان ذلك في الجامعات أو في مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية أو في بقية مؤسساتنا البحثية. كم مليار أنفقناه على البحث العلمي في العقود الماضية؟ النتاج البحثي السعودي ليس صفراً، إذ ثمة أبحاث سعودية عالية المستوى ومنشورة في مجلات علمية مرموقة، وفيها عمق منهجي، وأصالة بحثية، وبعضها يمكّننا من توليد إيرادات جيدة، ولكن هذا النتاج البحثي الجيد لا يتناسب إطلاقاً مع الإنفاق الكبير على المنظومة البحثية.
ولكي أكون شفافاً في هذه المرحلة التي نرفع فيها شعار «كفاءة الإنفاق»، فإنني أقول بأن البحث العلمي الرصين بحاجة إلى مبالغ أكبر من تلك التي خصصناها في سنوات ماضية، ولكن كثيراً من مؤسساتنا البحثية لا تستحق دعماً مالياً أكبر بحسب وضعها الحالي، بل إن بعضها قد لا يستحق أي دعم للبحث العلمي أصلاً، نتيجة الهزال الشديد في العملية البحثية ومنهجيتها ومخرجاتها، مع غياب تام أو شبه تام لـ «الأولويات البحثية» في هذه الجامعات والمؤسسات، فبعضها لا يمتلك أي أولويات بحثية، واسألوا هذه الجامعات والمؤسسات إن شئتم أو طالعوا مواقعها الإلكترونية.. لا شيء هناك، وقد وجدت أن بعضها لا يميز بين الأولويات البحثية والمواضيع البحثية؛ وبعضها يضع «أولويات شكلية» في مواقعها الإلكترونية، وحين أقول شكلية، فمعنى ذلك أنها لم تُحدَد وفق منهجية علمية دقيقة مربوطة باحتياجات المنطقة التي تعمل فيها الجامعة، وهي مجرد نتاج عصف ذهني وتتم عبر مخاطبات رسمية بين وكالات الجامعات للدراسات العليا والبحث العلمي والكليات والأقسام العلمية لتأتي ردود سريعة مبتسرة وغير مستندة لمسوحات ميدانية بالاحتياجات المجتمعية، ويعكس هذا الأمر أن الجامعات لا تؤمن أصلاً بهذه الأولويات، فهي للديكور فقط، وأما الاشتغال البحثي الحقيقي عليها، فهو قريب من الصفر، سواء من جهة الربط الدقيق المبرر بين ميزانية البحث العلمي ومشاريع بحثية داخلة في تلك الأولويات أو من جهة جودة العمليات والمخرجات البحثية في مثل هذه المشاريع على افتراض وجودها. مؤكد أن هنالك استثناءات في بعض الجامعات (كجامعة الملك عبدالله وجامعة الملك فهد) وبعض الممارسات الجيدة في جامعات أخرى. وهنا أسجل بكل وضوح أن وزارة التعليم العالي في العقود السابقة لم تقم بضبط بوصلة البحث العلمي في الجامعات السعودية ولم تقيم جودته وإسهاماته التنموية، بدليل غياب مقوم رئيس في منظومة البحث العلمي وهي الأولويات البحثية في أكثر جامعاتنا، وهي حقيقة مرة. آمل ألا تدوم أو تستمر وقتاً متطاولاً..!
ضعف النتاج البحثي التطبيقي وهزاله حقيقة، على الأقل عندي، وعند عدد لا أظنه قليلاً من الزملاء الأكاديميين المتابعين للنتاج البحثي والراصدين لمساراته ومخرجاته كماً ونوعاً، على المستوى الوطني والعربي والدولي. طرحت هذه المسألة تقصداً، لأن البعض قد يعارضنا حول هذه النتيجة الأولية. جميل، إذن نحن مختلفون. كيف نصل إلى نتيجة حاسمة أو شبه حاسمة؟ نحتاج إلى إجراء تقييم شامل للنتاج البحثي التطبيقي السعودي في كافة مؤسساته البحثية، عبر لجنة علمية مستقلة، يشارك فيها علماء وخبراء سعوديون وأجانب، للوصول إلى تقييم دقيق ومنصف، وبناء عليه صياغة معايير إعداد الموازنة البحثية، زيادة أو تخفيضاً أو ثباتاً، مع تحديد المؤسسات التي تستحق دعماً، وتلك التي لا تستحق مثل هذا الدعم، والتي يمكن لها أن تشتغل على أي مهام أخرى نافعة غير «البحث العلمي» كالتعليم والتثقيف ونحو ذلك من الأمور المهمة والداعمة لبعض مقومات مجتمع المعرفة، فنحن ننشد إنفاقاً منتجاً، يصل بنا إلى نتاج معرفي يفلح في تأسيس مقومات الاقتصاد المعرفي السعودي.
وبإزاء الأفكار الخلاقة، أشير إلى أن عدداً لا يستهان به من السعوديين ومن المقيمين فيها ممن يعملون في مؤسساتها توصلوا إلى أفكار مبتكرة، غير أننا لم نفلح بعدُ في ترجمة كثير من تلك الأفكار إلى «منتجات ملموسة» في قوالب استثمارية ناجحة، ومن الواضح أن منظومة الابتكار والاختراع لدينا غير فعالة وغير مكتملة، إذ إنها لا تعمل بشكل صحيح كما يجب، فثمة أفكار إبداعية لم نُصدِر لها براءات اختراع، وهنالك أفكار أخرى لم نجد لها سبيلاً للتمويل أو التنفيذ. وقد أخفقنا في الإفادة من المبدعين والمبتكرين السعوديين العاملين في مؤسسات وطنية وأجنبية خارج الوطن، إذ لم أسمع أننا وجهنا الدعوة لبعض هولاء في محاولة لتفعيل ابتكاراتهم وأبحاثهم الخلاقة وتحويلها إلى مشاريع توفر منتجات وفرص عمل لأبنائنا وبناتنا. تجاهل مطبق، حتى الإعلام لم يقدم لهم شيئاً مذكوراً. وعلى هذا، يصح منا القول بأن «منظومة الابتكار السعودي» بحاجة هي الأخرى إلى تقييم دقيق عبر لجنة علمية مستقلة، لتحديد الثغرات والسلبيات ونقاط الضعف والتحديات، بجانب المزايا والإيجابيات ونقاط القوة والفرص المتاحة والمحتملة، كل ذلك من أجل معرفة ما يتوجب علينا فعله، في مسار التشريعات والمؤسسات والآليات والتمويل والتنفيذ والتسويق والحماية ونحو ذلك. وبعد الحديث عن منظومتي البحث والابتكار، أود لفت النظر إلى أن كل مجتمع إنساني يتوفر على «معرفة محلية» يمكن أن تكون مصدراً للإيراد الجيد وتنويع مصادر الدخل الوطني، إن حظيت بتخطيط استراتيجي محكم. المعرفة المحلية السعودية تعكس كل معرفة يمكن للسعوديين إنتاجها بشكل دقيق ومفصل وكامل وموثوق عن ثقافة المجتمع السعودي وتجلياتها الأدبية والفنية والشعبية والتراثية والمعمارية. ويدخل في هذه المعرفة المحلية أيضاً ما يسميه البعض بـ «الصناعات الإبداعية»؛ التي تتضمن - ضمن أشياء أخرى - المنتجات الفنية والثقافية في سياق الثورة المعلوماتية عبر الشابكة (الإنترنت)، حيث يستخدمها مستهلكون تفاعليون جدد، مواطنين وغير مواطنين. ويندرج تحت الصناعات الإبداعية صناعة النشر بمختلف أشكاله. وكل ما سبق يمثل مجال خصباً لتوليد إيرادات ضخمة وخلق عشرات الآلاف من الوظائف الجيدة للشباب السعودي.
هنالك أسئلة فرعية عديدة تتطلب إجابات دقيقة، ومنها: هل نتوفر على معلومات دقيقة عن «المعرفة السعودية الناجزة» وتلك التي يمكن أن تكون «ناجزة»، ولو بعد حين؟ ما مصادر هذه المعرفة وتلك؟ وكيف تتحقق ؟ وما قيمتها؟ وماذا تحتاج؟ وإلى أين تتجه؟ ما هي المزايا التنافسية للمعرفة السعودية؟ وماذا عن الصناعات الإبداعية السعودية؟ وماذا عن المعرفة السعودية المحلية؟ هل هنالك تنسيق كاف بين مؤسساتنا البحثية فضلاً عن التكامل؟ ماذا عن ربط البحث العلمي التطبيقي بالصناعة؟ وماذا عن ربطه بالابتكار؟ ما خصائص الابتكار الذي يقودنا إلى اقتصاد معرفي؟ كل هذه الأسئلة تتكثف حول سؤال واحد كبير: «المعرفة السعودية» هل أحد يرعاها؟ لا أحسب أننا نمتلك أجوبة دقيقة على هذه الأسئلة، ولا أرى أن هنالك أي مؤسسة معنية بشكل مباشر برعاية «المعرفة السعودية». إذن، نحن بحاجة إلى تأسيس كيان تنظيمي جديد لهذه المهمة، أو إعادة هيكلة بعض الكيانات لكي يكون ضمن أهدافها ومهامها واختصاصاتها الرئيسة رعاية المعرفة السعودية وإيجاد منظور استراتيجي للاستثمار المعرفي كجزء من الاستراتيجية الوطنية للتحول نحو مجتمع المعرفة وبناء الاقتصاد المعرفي. آمل أن ندرس جيداً خيارات إيجاد الكيان التنظيمي الراعي لمنظومتنا المعرفية والابتكارية، فقد أضحت هذه المنظومة مقوماً رئيساً لبناء اقتصادنا الوطني على أسس صلبة، تضمن له التجدد والتنوع والمضي في مسارات التنمية المستدامة، بكافة أبعادها البيئة والاجتماعية والاقتصادية، ومعالجة مختلف تحدياتها التي تتعقد يوماً بعد يوم، ولا وسيلة ناجعة لمواجهتها إلا عبر البحث العلمي الجيد، والثقافة المستنيرة الداعمة للتفكير النقدي والمعلية للعلوم والابتكارات والفنون.