إبراهيم بن سعد الماجد
وصفتهـــا صحيفــة (مونيتور) الأمريكية بأنها علاقة مقدسة وغير قابلة للجدال، وقالت الصحيفة في مقال للكاتب التركي (فهيم تاستكين) (رغم اختلاف وجهات نظر الدولتين في بعض القضايا الإقليمية فإن الرياض وأنقرة حافظتا على علاقات ثنائية بعيدة عن المشاحنات الإقليمية).
هي بلا شك كما وصفتها الصحيفة الأمريكية بأنها علاقات مقدسة وقوية ومتينة بقوة ومتانة الدولتين وما يمثلانه من ثقل إقليمي ودولي، وبقوة ومتانة الروابط العديدة المشتركة التي تربط بينهما، وقدم تاريخ العلاقات يشهد على هذه القوة والمتانة، حيث بدأت العلاقات الدبلوماسية الحديثة بين البلدين في العام 1929م، وذلك إثر توقيع اتفاقية العلاقة والتعاون بين البلدين.
ومنذ ذلك الحين والعلاقات بين البلدين تشهد نمواً مطرداً وتوافقاً في معظم القضايا والمواقف حول المنطقة والعالم ومزيداً من التعاون المستمر على المستوى السياسي والتجاري والاقتصادي وكذلك العسكري. ولقد أرست الزيارات المتعددة والمتبادلة بين كبار المسؤولين في البلدين أسساً راسخة وثابتة لقواعد هذه العلاقة وعملت على دعم مواقفهما في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية.
فقد بدأت تلك الزيارات في وقت مبكر من تاريخنا الحديث، حيث قام الملك فيصل -رحمه الله- بزيارة إسطنبول التركية في العام 1966 م في إطار جهوده لتوحيد الدول الإسلامية. ولكن الزيارة الأبرز في تاريخ تلك العلاقة والتي وصفت حينها بالتاريخية وهي الأكبر في تاريخ العلاقات بين البلدين تلك التي قام بها الملك عبدالله بن عبدالعزيز -يرحمه الله- إلى تركيا في الرابع عشر من رجب 1415هـ الموافق الثامن من أغسطس 2006م والتي كان من ثمارها التوقيع على ست اتفاقيات ثنائية بين البلدين. وقد أحدثت تلك الزيارة تغيراً جوهرياً في العلاقة من حيث الأهداف والدلالات، إذ ساهمت تلك الزيارة في إعطاء قوة دفع أكبر نحو تأسيس شراكة إستراتيجية بين البلدين؛ إذ تعتبر هي الزيارة الأولى لملك سعودي منذ أربعين عاماً مضت، حيث اعتبرت المملكة العربية السعودية تلك الزيارة بأنها (ستفتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين) واعتبرتها تركيا بأنها (تاريخية وستمثل نقطة تحول في العلاقات بين البلدين).
وهي بالفعل كذلك إذ شهدت توقيع ست اتفاقيات ثنائية في كافة جوانب التعاون السياسي والاقتصادي والعسكرى والثقافي مما فتح آفاقاً واسعة أمام القطاعين الحكومي والخاص للاستثمار والتعاون وعقد الشراكات الاقتصادية الكبرى التي عملت على توثيق الصلات وتقوية الروابط بين الشعبين، وقد أدى ذلك الواقع العملي في التعاون بين البلدين في كل تلك الجوانب الحيوية إلى تشابك المصالح على كافة المستويات الدنيا المتمثلة في شبكة رجال الأعمال والشركات والقطاع الخاص ومن ثم على المستويات العليا المتمثلة في رعاية الدولتين لهذه المصالح وتسهيل سبل الاتصال واللقاءات وعقد المؤتمرات.
لاشك أن ذلك التزايد في الأنشطة الاقتصادية قد مهد لوجود تقارب إستراتيجي على المستويين السياسي والاقتصادي بين البلدين، كما أسهم ذلك التقارب في تطوير الشراكة لتصبح أكثر إستراتيجية بمفهومها الواسع المتمثل في التعاون على كافة الجوانب السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية.
وكانت النقلة النوعية الأكبر في تاريخ العلاقات بين البلدين بوصول الملك سلمان بن عبدالعزيز إلى الحكم فعمل على تطوير تلك العلاقات إلى آفاق وصفها المراقبون بأنها الأوسع في تاريخ المنطقة وخاصة إن أكثر ما كان يبعث على التفاؤل في تحسن العلاقات التركية - السعودية، أن الملك سلمان بن عبدالعزيز، هو من تولى ملف العلاقة مع أنقرة حين كان ولياً للعهد ووزيراً للدفاع.. ولعل زيارته الشهيرة إلى أنقرة في مايو من العام 2013 هي من أسست القاعدة الصلبة للعلاقات بين البلدين، إذ وقع آنذاك اتفاقية للتعاون الصناعي - الدفاعي بين البلدين، مما أسهم في تشكيل تطابق في الرؤى الإستراتيجية خاصة فيما يتعلق بأمن واستقرار المنطقة والحرب على الإرهاب وهما الهاجس الأكبر الذي يؤرق قيادة البلدين.
كما شكلت الأحداث الإقليمية والتحولات في المنطقة العربية وخصوصاً في اليمن وسوريا وليبيا دافعاً كبيراً في التقارب بين البلدين. ففي المجال السياسي، تتسم مواقف البلدين بالتنسيق والتشاور وتبادل الآراء فيما يخص القضايا ذات الاهتمام المشترك، وأولى البلدان بوصفهما جزءًا لا يتجزأ من الأمة الإسلامية، قضايا الأمة جل اهتمامهما، من منطلق إيمانهما بعدالة هذه القضايا وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، كما يمتلك البلدان دورًا فاعلاً في منظمة التعاون الإسلامي.
وفي الشأن السوري، تتطابق رؤية البلدين في حتمية رحيل نظام الرئيس السوري بشار الأسد، ودعم المعارضة السورية، والتأكيد على الحل السياسي للقضية، مع المحافظة على سيادة ووحدة التراب السوري، وحق شعبه في الحرية والكرامة والعدالة.
وفي الشأن اليمني تدعم تركيا التحالف الذي تقوده المملكة العربية السعودية لدعم الشرعية في اليمن، وتتطابق وجهات نظرهما، خصوصًا فيما يتعلق بإيجاد حل سياسي للأزمة اليمنية.
وعلى صعيد التعاون العسكري، شهدت العلاقات نقلة نوعية وتعاونًا متناميًا، فقد وقَّعت شركة «أسيلسان» التركية للصناعات العسكرية الإلكترونية، والشّركة السّعودية للتّنمية والاستثمار التّقني الحكومية «تقنية»، في 21 فبراير الماضي، اتفاقًا لتأسيس شركة مشتركة للصناعات الدفاعية الإلكترونية المتطورة في المملكة العربية السعودية.
وتهدف الشركتان من خلال مساهمة قدرها 50 % لكل منهما، لتأسيس شركة للصناعات الدفاعية الإلكترونية المتطورة في المملكة، لصناعة وتصميم وتطوير الرادارات، ومعدات الحرب الإلكترونية، والرؤية البصرية، وسد احتياجات المملكة والمنطقة من هذه المعدات.
كما شاركت تركيا في مناورات «رعد الشمال»، التي أجريت شمالي السعودية خلال الفترة من 27 فبراير ولغاية 11 مارس الماضيين، بمشاركة قواتٍ من 20 دولة، إضافةً إلى قوات درع الجزيرة، التي وُصفت بأنها من أكبر التمارين العسكرية بالعالم.
وقد أنعكس ذلك التقارب بين الرؤى الإقليمية والسلوك الخارجي للمملكة وتركيا، إيجابيًا على العلاقات الثنائية بين البلدين على المستوى الاقتصادي والتجاري. فقد نجح المستثمرون السعوديون في الحصول على مكانة متميزة في الاقتصاد التركي، بينما استفاد المستثمرون الأتراك من مشروعات البنى التحتية الكبرى، التي يجرى العمل على تنفيذها في المملكة، وكان أبرزها مشروع تجديد وتشغيل مطار الأمير محمد بن عبدالعزيز، بالمدينة المنورة، بالشراكة مع شركة سعودية.
وشهدت الفترة القريبة الماضية، توجه أعداد من السعوديين بصفة خاصة، لشراء العقارات في تركيا، فيما يزور المملكة سنويًا مئات الآلاف من الأتراك بغرض الحج أو العمرة، إضافة إلى العاملين الأتراك في مختلف القطاعات بالسعودية، والذين بلغ عددهم أكثر من 100 ألف مهني وإداري في القطاع الخاص.
هذا وقد زاد حجم التبادل التجاري بين الدولتين، عدة مرات خلال السنوات العشر الأخيرة، والذي ارتفع من 5 مليارات ريال إلى 22 مليار ريال في العام 2014، أي ما يعادل 5 مليارات دولار. ووفقا لتقارير رسمية صادرة عن وزارة التجارة والصناعة السعودية، فقد بلغ عدد المشروعات المشتركة بين البلدين حوالي 159 مشروعًا، منها 41 مشروعًا صناعيًا، 118 مشروعًا في مجالات غير صناعية تختلف باختلاف نشاطاتها، وبرأسمال مستثمر يبلغ مئات الملايين من الريالات. ويعمل مجلس أعمال سعودي تركي، يضم رجال أعمال من البلدين، على دعم وتنشيط وتشجيع العلاقات التجارية بين البلدين.
ويرى باحثون اقتصاديون ومحللون، أن أوجه التعاون بين السعودية وتركيا أكبر بكثير مما هو موجود الآن، نظراً لما تتمتعان به من آفاق واسعة للتبادل التجاري، في الساحة الاقتصادية الدولية، حيث يمكن للمملكة أن تمثل شريكاً اقتصادياً قوياً ومضموناً لتركيا في ظل التقارب بين البلدين، والعلاقات المتميزة التي تصاعدت في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، والرئيس أردوغان الذي يسعى لتعزيز علاقات بلاده مع المحيط الإقليمي والدولي.
وتأتي الزيارة الأخيرة التي قام بها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز لتركيا والتي امتدت ما بين يومي 11 - 13 أبريل الجاري، وهي الزيارة الثانية له خلال 6 شهور والرابعة خلال 13 شهراً، بعد المباحثات التي جمعت بين القياديتين في الرياض خلال شهر ديسمبر من العام الماضي وذلك بعد قمة جمعتهما على هامش زيارة الملك سلمان بن عبدالعزيز إلى مدينة أنطاليا التركية في نوفمبر الماضي وكذلك القمة التي جمعتهم في مارس 2015 م خلال زيارة الرئيس التركي للرياض، تأتي تلك الزيارة لتثمر عن سياسة أقليمية جديدة وتعاون مختلف عن ما سبقه بين البلدين لمواجهة التحديات التي تواجه المنطقة والعالم الإسلامي.
فقد شغلت تلك الزيارة أغلب المراقبين لما لقيه الملك سلمان بن عبدالعزيز من حفاوة بالغة من الرئيس التركي رجب طيب أوردغان الذي أعد استقبالاً خاصاً ومميزاً لضيفه في القصر الجمهوري، إذ رافقت فرقة الخيالة الملك سلمان بن عبدالعزيز من أول الطريق الواصل إلى القصر حتى وصوله إلى أبوابه حيث كان الرئيس التركي في استقباله. وأطلقت المدفعية 21 طلقة، وعُزف النشيد الوطني للبلدين، ثم حيّا الملك سلمان فوج الحرس الرئاسي التركي.
وفي أثناء مراسم تقديم الوسام للملك سلمان باشره أردوغان بكلمة ترحيب قائلاً: اجتمعنا اليوم لتقديم وسام الجمهورية لأخي العزيز خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود.. موضحاً أن الوسام يقدم لرؤساء الدول وهو أعلى وسام يقدم في تركيا.
وأشاد الرئيس التركي بجهود الملك سلمان في تعزيز العلاقات بين أنقرة والرياض منذ توليه ولاية العهد، وأضاف قائلاً: أخي الملك سلمان، كنتم صمام أمان للاستقرار والرخاء والأمن في منطقتنا، التي تشهد أزمات كبيرة، بفضل إدارتكم الحكيمة.. معرباً عن سعادته الكبيرة بتقديم وسام الجمهورية للملك سلمان بن عبدالعزيز.
وأعرب خادم الحرمين عن شكره وتقديره على تكريمه بهذا الوسام وقال: (أود أن أعبر عن شكري وتقديري لتقليدي هذا الوسام الكبير الذي أعتبره ليس تكريماً لي فقط، ولكن للمملكة العربية السعودية حكومة وشعباً. إن هذا التكريم يجسد عمق العلاقة والصداقة بين بلدينا والتي أساسها ديننا الإسلامي الحنيف، وشكراً).
ثم عقدا جلسة مباحثات رسمية أعرب الرئيس التركي في بدايتها باسمه وباسم الحكومة التركية عن ترحيبه بخادم الحرمين في زيارته الحالية لجمهورية تركيا.. وأشار إلى أهمية استمرار اللقاءات بين مسؤولي البلدين في مختلف المجالات السياسية والتجارية والاقتصادية والعسكرية والثقافية والاجتماعية، لما فيه تحقيق المصالح المشتركة وتعزيز العلاقات بين البلدين الشقيقين. وأكد حرصه على تعزيز العلاقات الثنائية بين تركيا والمملكة العربية السعودية، لافتاً إلى أهمية التعاون الإستراتيجي بين البلدين بما يحقق الاستقرار في المنطقة.
وألقى الملك سلمان كلمة تقدم فيها بخالص الشكر والتقدير لفخامة الرئيس ولحكومة وشعب تركيا الشقيقة على ما لقيه من حسن الاستقبال.
وقال: (تأتي هذه الزيارة في إطار اهتمامنا المشترك في التعامل مع القضايا في منطقتنا؛ ويأتي في مقدمتها إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية، وإنهاء الأزمة السورية، والتصدي للتدخلات في الشئون الداخلية لدول المنطقة من قبل من يحاول توسيع نفوذه دون اعتبار للأعراف والمواثيق).. وأضاف: يشهد اليوم عالمنا الإسلامي عملاً جماعياً وإستراتيجياً من خلال تحالفات تضمن تنسيق وتكامل الجهود، ومن ذلك التحالف الإسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب، والذي حرص فخامتكم على أن تكون تركيا من أوائل الـ39 دولة المنضمة إليه، والرسالة التي أعلنا عنها من خلال رعد الشمال الذي يعد أكبر تمرين عسكري في المنطقة، هي رسالة لكل من يحاول المساس بأمننا واستقرارنا. وتابع قائلاً: إن واقعنا اليوم يحتم علينا العمل معاً لخلق بيئة ملائمة تسمح لشعوب دول المنطقة تحقيق تطلعاتها في الأمن والاستقرار والتنمية.. معبراً عن ثقته بأن محادثاته مع أردوغان «ستفضي إلى نتائج مثمرة ترسخ علاقاتنا الإستراتيجية مما يفتح آفاقاً واسعة لتعزيز روابطنا السياسية والاقتصادية والتجارية والعسكرية والأمنية بما يعود بالنفع على بلدينا وشعبينا الشقيقين.
إن التبادل الودي والمعبر لهذه الكلمات ذات الدلالات العميقة في بعدها السياسي والإستراتيجي بين قيادة الدولتين وهما يمثلان قوة إقليمية عظمى لهما تأثيرهما في المنطقة وفي صناعة القرار الدولي يوضحان عمق المحبة والتوافق التام بينهما مما يسهم في نقل العلاقة إلى آفاق أوسع في منحاها المتزايد لصالح الشعبين أولاً والمنطقة ثانياً.
زيارة لم تكن عادية في كل معطياتها, سواء السياسية او الاقتصادية والتجارية, وختمها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز بمشاركته في القمة الإسلامية التي كان حضوره لها فاعلاً ومؤثراً, ولقي من فخامة الرئيس رجب طيب أوردغان ترحيباً آخر في مدينة إسطنبول بين زعماء وقادة العالم الإسلامي، مما أعطى رسالة أكثر وضوحاً لعمق العلاقات بين البلدين الشقيقين.