د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
أسأل نفسي حين أرى جسور قطار المترو تمتدّ طولاً معتلية شوارع في الرياض أو عمائر تناطح السحاب أو أنفاقاً وجسوراً ضخمة تنظم حركة السيارات: أيهما الأفضل أن تصبح الرياض كبيرة بسكانها ومساحتها ودكاكينها ومصانعها، أم مدينة عظيمة بخدماتها ومعالمها وتنظيمها؟.
لقد توقع كتاب (الرياض في أرقام) الذي أصدرته غرفة الرياض مؤخراً أن يبلغ سكان مدينة الرياض عام 2025م - 1446هـ (7.3) ملايين نسمة.. هذا في حين أن عدد سكانها بلغ في عام 1435هـ (5.8) ملايين نسمة حسب ما ذكرته هيئة تطوير الرياض على موقعها في الإنترنت، مستندة إلى معدل نموّ سنوي مقداره (4 %) - أي أن سكان الرياض يصل إلى حوالي (8.9) ملايين نسمة عام 1446هـ.
ويبدو أن الغرفة أخذت بمعدل نمو السكان السعوديين العام في المملكه وهو (2.08 %)، لذلك قلّ تقديرها عن تقدير الهيئة، وهو الأنسب بحوالي مليونين ونصف المليون. في كلتا الحالتين فإن التقدير يشير إلى انخفاض عدد السكان عمّا توقعته الهيئة في عام 1425هـ في تعقيب لها على مقالة كتبها الدكتور مشاري النعيم بجريدة الرياض في 14-4-1425هـ.. آنذاك توقعت الهيئة أن عدد سكان مدينة الرياض سيبلغ في عام 1442هـ حوالي (10.5) مليون نسمة بمعدل نموّ سنوي (5.3 %) يقلّ عن معدل النمو البالغ آنذاك (8 %) بافتراض أن معدل الهجرة إلى الرياض سيقلّ عما كان عليه الحال قبل ذلك. عندئذ يصل عدد السكان في عام 1446هـ إلى حوالي (12.7) مليون نسمة.. وقد حملني الخوف من هذا الرقم على الكتابة إلى الجريدة بتعقيب عنوانه: (مدينة الرياض: هل نحن مقبلون على تورّم سكاني؟). كان ذلك قبل اثني عشر عاماً، وكان التخوف في محله.. فالهيئة أخذت في الاعتبار أيضاً أن يتسع مخطّط الرياض الإستراتيجي عام 1442هـ لحوالي (17) مليون نسمة، أي في عام 1446هـ حوالي (20) مليون نسمه.. فتصوروا الحال عندما يسكن بمدينة الرياض نصف سكان المملكة! وهو أمر لم تكن الهيئة ترغبه ولكنها كانت تخشاه وتحتاط له. والدولة كلها لم تكن ترغبه، والدليل على ذلك أنها قد أقرّت في عام 1421هـ إستراتيجية عمرانية وطنية تعتمد على أن تُنشأ محاور تنمويّة بمختلف مناطق المملكة. وهذه الإستراتيجية -وإن لم تنفذ بحذافيرها- إلا أن تطوّر التنمية سار في الاتجاه نفسه. وعلى سبيل المثال كان توجد قبل عام 1425هـ 22 جامعة حكومية وأهلية.. والآن توجد 36 جامعة موزعة على كل مناطق المملكة، كما توجد كذلك 32 كلية طب حكومية وأهلية.
وفي عام 1425هـ كان هناك 34 معهداً ثانوياً فنياً وصناعياً و55 كلية تقنية ومعهداً عالياً تمنح الدبلوم.. والآن توجد 8 كليات تمنح البكالوريوس، و87 تمنح الدبلوم، و21 معهد شراكة إستراتيجيه، و66 معهداً صناعياً، وكلها موزعة على مناطق المملكة.
من ناحية أخرى قامت بعض الجهات الصحية بالتوسع في إنشاء مراكز طبية لم تكن موجودة خارج الرياض.. مثال ذلك وزارة الصحة بإنشاء مدن طبية في مكة والدمام والجوف، والحرس الوطني بإنشاء مستشفيات في كلٍّ من الأحساء والدمام والمدينة (في جدّة موجود من قبل)، ووزارة الداخلية في مكة المكرّمة والدمام، ومؤسسة مستشفي الملك فيصل التخصصي بفرعها في جدة. وقد أنشئت في عدة مناطق مدن اقتصادية صناعية جديدة، على سبيل المثال في رابغ وجازان وحائل وسدير؛ ولكن على الأخص مناطق التعدين الجديده في الحدود الشمالية.. ولا يشمل هذا الإيجاز التطور الكمّي الأفقي في الخدمات التعليمية والصحية والبلدية وخدمات حكومية أخرى في مختلف المناطق، ولا أنشطة القطاع الخاص المالية والتجارية والصناعية والخدمية التي تنمو حيث تنمو المناطق الحضرية. كما لا يشمل المشروعات الخدمية والإنشائية المعتمدة ولم تنفذ بعد. كلّ هذا التوسّع الكمّي على مستوى المملكة لم يمنع نموّ مدينة الرياض سكانياً (بمعدل 4 % سنوياً)، ولكنه نموٌّ متوازن مع مجموع بقية المناطق في المملكة. فقد بقيت نسبة سكان الرياض إلى سكان المملكة عامة في السنوات: (25، 31, 1435) ثابتة تقريباً - أي 18, 19, 18 %- على التوالى. وكذلك نسبة سكان الرياض السعوديين 16, 16, 17 % من مجموع السعوديين في المملكة.. الهجرة العكسية من الرياض إلى خارجها لم تحدث إذن بدرجة مؤثرة.. ولكن الذي أظهره ثبات النِسب هو أن تدفق الهجرة من المناطق قد خفّ نظراً لاتساع الخدمات وانتشارها، وبذلك خف الضغط على الرياض، وزال الخوف من (التورّم) السكاني - على الأقل مؤقتاً. وسوف يزول نهائياً عندما يقوي التوجه إلى توزيع الخدمات ومشروعات التنمية بشكل متوازن -بما في ذلك مقارّ الهيئات والمؤسسات التي لا لزوم لوجودها في الرياض- وتتقلص المركزية في الإدارة لصالح المناطق.. ولكن ماذا تستفيد مدينة الرياض من ذلك كله؟.. الفائدة أنها بالتكدس السكاني الذي يتزايد بدون حساب لا تستطيع أن تنعم بمخطّط حضري حديث وراقي ردحاً طويلاً من الزمن.
ستصبح الرياض مدينة كبيرة مثل نيو دلهي أو القاهرة، وتكبر معها المشكلات الأمنية والأخلاقية والمعيشية، ستكثر فيها الأحياء الفقيرة الرديئة الخدمات وسيزداد التلوث البيئي، وستكثر الشكوى من قصور الخدمات لأن ما تمّ التخطيط له لم يعد يفي بالحاجة، وغير ذلك من السلبيات. ولكي تصبح الرياض مدينة عظيمة متحضرة لا بدّ أن تكون جميع خدماتها ومرافقها ملبية لمتطلبات سكانها ومكتملة ولا يعاني السكان مشقة في الحصول عليها أو نقصاً فيها بسبب الإهمال أو التغييرات المتتالية، وأن تكون بيئتها وشوارعها وأرصفتها نظيفة ومرتبة، وأن تكون قادرة على توفير الحلول الفورية عند حصول مشكلات مستجدّة. لا بدّ في المدينة العظيمه أن يشعر الناس بأنه لا ينقصهم شيء من وسائل العيش والترفيه والثقافة التي أصبحت من ضرورات الحياة.