د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
المطالبة بتجديد الخطاب الديني لا تقتصر على مصر -وإن كانت اشتدت فيها لمواجهة الأفكار والأنشطة المتطرفة. لذلك فإنه من محاسن الصدف أن نطّلع في يوم واحد على رؤية كاتبين سعوديين،
يعالج كل منهما القضية من زاوية مختلفة. الكاتبان أشهر من أن يُعرّفا، وهما الأستاذ محمد آل الشيخ الذي كتب بصحيفة الجزيرة بتاريخ 27-6-1437هـ عن (تجديد الخطاب الديني)، مؤكّداً ضرورة التجديد وفق ما استجدّ من المتغيرات على الساحة الدنيوية، وتساءل كيف نتبع أقوال واجتهادات فقهاء لم يعايشوا واقعنا، وذكر أن داعش مثلاً استقت أغلب شرائعها التي تمارسها من أمهات كتب الفقه وأقوال علماء شرعيين حول بعض النصوص. ويرى تقسيم الخطاب الإسلامي إلى (ثوابت) لا تُمسّ وتبقى كذلك في كل زمان ومكان، (ومتغيّرات) تدور مع مصلحة المسلم ومن يتعايش معه من غير المسلمين، ثُمّ يورد أمثلة من تاريخ الإسلام حول بعض القضايا التي عولجت فيها نوازل استجدت بعد عهد الرسول، والأستاذ حمد الماجد الذي كتب بصحيفة الشرق الأوسط أيضاً في 27-6-1437هـ بعنوان (حطموا الرموز والمستفيد داعش والإرهاب)، وفيه ينتقد بشدّة من تبنّوا لغة إقصائية جريئة تجاه الموروث ورموزه مثل ابن تيمية وابن القيّم وتجاه المراجع الكبرى مثل (الفتاوى الكبرى) و(المغنى)، ممّا يفصل الجيل الجديد عن الموروث ويهيّئ لتيارات الإرهاب السيطرة عليه واستغلال عاطفة الشباب وإقناعهم بأن البديل موجود لديهم وأنهم يعادون الذين يحاربون الدين ورموزه ومرجعياته. كما يرى أن الذين يهاجمون الرموز وأدبياتهم يتذرعون بحجة يعلمون أنها حقيقة مسلّم بها وتُطبّق منذ جيل الصحابة وهي مقولة (كلٌّ يؤخذ من قوله ويردّ) إلا الأنبياء. وأنه لا أحد فوق النقد، ولذا لا إشكال في الاعتراض على آراء الأئمة وتفنيد حججهم وما ورد في كتبهم، فلا يعترض على هذا إلا المتعصبون، وإنما الإشكال في خطورة المطالبة بالقطيعة مع هؤلاء الأئمة أو اتهام بعض المراجع الفقهية بأنها أحد مصادر الفكر الداعشي.
من البديهي ألا نتوقع وجود خلاف بين الرأيين فيما يتعلق بالثوابت الشرعية التي تشمل بالتأكيد العبادات وأصول الدين وما ورد في القرآن الكريم والسنة الصحيحة من أحكام صريحة بالأمر أو النهي، وغير ذلك مما هو معروف منها ولا اختلاف في معناه ومقاصده على أنه صالح للبقاء في كل زمان ومكان. وهنا تكمن أهمية تفنيد حجج وآراء القامات من الأئمة الأعلام وأمهات كتبهم وفتاواهم، لأن فهم النصوص الصحيحة قد يختلف بمقدار ما تحتمله النصوص من معان أو تطبيقات مختلفة حسب تغير الأحوال في الزمان والمكان (فالقرآن مثلا حمّال أوجه - كما نُسب للإمام علي بن أبى طالب قوله- وعندئذ فإن الواجب فهمه على الوجه الصحيح). وفي إيقاف الخليفة عمر بن الخطاب لأحد وجوه صرف الزكاة -مع أنها ثالث أركان الإسلام- وهو الصرف للمؤلّفة قلوبهم تقييد للمباح لانتفاء علّته، بعد أن انتشرت الدعوة الإسلامية وتوسعت الفتوحات. وعمر نفسه أبطل توزيع الأراضي المفتوحة على المجاهدين وأمر بتركها لأهل البلاد ليزرعوها ويؤدّوا خراجها، ممّا يشكّل مورداً ثابتاً لبيت مال المسلمين ويحقق مصلحة عامة لسائر المسلمين بدلاً من مصلحة أصغر تخص طائفة منهم. فإذا كان هذا ما عمله قامة كبرى من قامات الصحابة في أمور متعلقة بالثوابت الشرعية، فما بالك بالأمور المتعلقة بالمتغيّرات على الساحة الدنيوية
(كما يسمّيها الأستاذ محمد آل الشيخ)؟ وحيث لا إشكال في الاعتراض على آراء الأئمة- بما فيهم القامات الكبرى من التابعين وتابعيهم/ وتفنيد حججهم والاستدراك على ما ورد في كتبهم- كما ذكر الأستاذ حمد الماجد- فإن هذا لا يجيز بأي حال (القطيعة) معهم ورمي كتبهم، لأن آراءهم وكتبهم كما أن فيها اجتهادات وتفسيرات غير صائبة ففيها الكثير من الصواب الذي يُرجع إليه، والمقولة التي يردّدها بعض سلفيّي عصرنا الحاضر أن (لحوم العلماء مسمومة) لا تنطبق على نقدهم والاعتراض على آرائهم، وإنما على السّبّ أو التحقير لأشخاصهم. الشيء الذي يجب الالتزام به هو أن يكون النقد موضوعياً مبنياً على حكمة العقل ووضوح المصلحة العامة، ليس انفعالياً ولا جزافياً ولا أهوائياً، ويقدّم البديل الأفضل الصالح لزمان هذا العصر ويخدم المقاصد الشرعية دون أن يزعزع الثوابت والأحكام الشرعية القطعية. وربما لو عاش نفس الأئمة الكبار مثل ابن قدامة وابن تيمية في عصرنا الحاضر لخرجوا باجتهادات تختلف عما قرّروه في عصورهم التي عايشوها، لأن أحوال الناس وطبائع العصور تتغيّر. مثال ذلك النظر في الاختلاف بين مقتضيات الجهاد في العصر الحاضر وعصر بداية الدعوة لدين الإسلام، بعد أن انتشر الإسلام في أصقاع العالم وتغيّرت وسائل الدعوة والاتصال، وصارت تنظم التعايش بين الناس والدول اتفاقيات ومعاهدات. وسيعجبون من تحريف هدف الجهاد الأصلي، وهو إعلاء كلمة الله، من خلال أعمال تناقض ذلك وتسيء لدين الله. على سبيل المثال: هل يعلي كلمة الله إعلان الجهاد التكفيري ضد المسلمين والمعاهدين، مما يضطر المسلمين إلى الاستعانة بغير المسلمين؟ وكذلك سينظر الأئمة في أسلوب تطبيق شريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذا كان قائماً على ثقافة التحريم التي تشمل المختلف على جوازه أو المبالغة في استخدام مبدأ سد الذريعة، بدلاً من التعامل بحكمة وسعة أفق واستيعاب عقلاني لمتغيرات العصر، ليس من خلال منعها بل من خلال سنّ القوانين التي تُخمد آثارها الضارة- إن وجدت. على سبيل المثال سنّ نظام لمكافحة التحرش لحماية المرأة في تسوّقها وتنزّهها وفي عملها أو الطريق لعملها. كما أن أولئك الأئمة سيرفضون استقاء التنظيمات الإرهابية من مراجعهم الفقهية ليؤوّلوها لأغراضهم الإجرامية، بعد أن يستلّوها من سياقها الزمني والمكاني. النقد الموضوعي النزيه لأئمة السلف والخلف إذن ممكن وتجديد الخطاب الديني بناءعلى ذلك مطلوب دونما حاجة للقطيعة معهم أو رمي كتبهم، ولا ننسى أن أحد أعلامهم وهو ابن القيّم خالف أيضاً أستاذه ابن تيمية، حين أكّد أنه حيثما تكون المصلحة (أو العدل) فثَمّ شرع الله. تقرير المصلحة في المتغيرات الدنيوية ليس حكراً على علماء الشريعة -مع فضلهم- بل إن وليّ الأمر -في لغتنا الحاضرة الحكومة وما تصدره من أنظمة- هو صاحب القرار، بعد استشارة ذوي العقول النيّرة، وطاعته واجبة.