د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
الأحداث الإرهابية التي هزّت بلجيكا قبل أسبوعين استحوذت على اهتمام وسائل الإعلام التقليدية في الشرق والغرب وأيضاً وسائل التواصل الاجتماعي. ومن بين ما تناقلته هذه الوسائل آراء دلّت في مضمونها على الاستغراب
من أن تطال يد الإرهاب (الداعشي) المتلبّس كالعادة برداء إسلاميّ مزيّف بلجيكا بالذات التي كانت من بين الدول الأوربية الأكثر استيعاباً وتعايشاً مع الجاليات الإسلامية، وأكثرها مغاربية. هذا الموقف المتميّز لدولة بلجيكا تجاه الجالية الإسلامية لا يعني بأيّ حال وضعاً معيشياً متميزاً لتلك الجالية، بل على العكس من ذلك؛ فالأحياء بهذه الجالية تتّسم بالفقر وترتفع فيها نسبة البطالة وتوجد فيها أوكار للمخدرات والدعارة -كما أفاضت في ذلك التقارير الصحفية التي عادة ما تغطى أحداثاً كهذه. ما يلفت النظر في تلك الأحداث ليس فقط فظاعتها ودمويتها- التفجيرات وقعت في وقت الذروة بالنهار، وكان ضحاياها من المدنيين - بل أيضاً تشابهها مع أحداث أخرى ارتكبت في تونس ومصر والمملكة العربية السعودية؛ وكذلك مع ما وقع قبل أسبوع في مدينة لاهور بباكستان، حيث وقع انفجار مروّع وسط جمهور المرتادين لمنتزه عام، أودى بحياة (72) شخصاً ثلثهم من الأطفال. وقد تبنّى الانفجار فرع منشقّ عن تنظيم طالبان الباكستانية سبق له مبايعة داعش قبل عام. وأعلن أنه استهدف المسيحيين بهذا الانفجار؛ وهم في باكستان لا يزيدون عن 2 % من السكان - (الشرق الأوسط في 29-3-2016). فالمشهد الظاهر في تلك الأحداث يتكوّن من انتحاريين مسلمين شباب ومتفجرات وأحزمة ناسفة وضحايا مدنيين بالعشرات، وتنظيم واحد يقف خلفها: داعش. ويناقض هذا التشابه اختلاف كبير في الجغرافيا وفي مجتمعات ونظم حكم البلدان التي شهدت الأحداث، وفى البيئات التي نشأ فيها منفّذو التفجيرات. لكن الحقيقة أنه لا يوجد تناقض، لأن ما يجمع بينها أكثر. فإن معظم -وليس كل- الحوادث الإرهابية المؤدلجة وقعت في العالم الإسلامي أو ينفذها مسلمون. وربما نجد أسباب ذلك في التنوّع المذهبي وتعدّد الانتماءات للطائفة أو القبيلة أو العرق، والتماهي بين الانتماءات المذكورة والانتماء المذهبي، وكون التخلّف الثقافي المتراكم منذ بداية عصر الانحطاط يسهّل استغلال تلك الانتماءات لغرض سياسيّ متسلّط -لا سيّما أن قفل باب الاجتهاد جعل التراث الديني المكتوب منذ العصر العباسي هو المرجع الرئيسي لمراكز الفتوى والتدريس في العصر الراهن مع إغفال السياق الزمني والمكاني. وفى مثل هذه الظروف فإن أي حدث تاريخي مناسب- مثل الصراع الدامي في العراق وسوريا- يمثّل فرصة لذوي الاتجاهات السياسية المؤدلجة لإنشاء تنظيم يبني خططه وبرامجه على أفكارتطرفة استقاها منظّروه ومشايخه من مصادر تراثية بعد أن وضعوا لها تأويلات ومعاني يسوّقها التنظيم ليبرّر أهدافه وفعاله. الفكر المتطرف والتنظيم كيان واحد. ما يبدو لغزاً محيّراً هو أن الاختلاف الكبير بين البيئات التي نشأ فيها أفراد التنظيم بخلاياه العديدة من حيث الوضع المعيشي والتعليم وبيئة التربية والعلاقات الاجتماعية لم يمنع من اعتناق نفس الفكر واتباع نفس الأسلوب. لكنّ التنظيم في الواقع يجد بغيته في نمط واحد من الناس: هم ذوو الشخصية القابلة للتطرف، أي تشبث الذهن بالفكرة الواحدة التي أساسها سرعة التأثر مع شعور بالظلم أو الإعجاب أو الخوف أو العظمة في دائرة بيئة معينة مثل الأسرة أو القبيلة أو القرية أو النادي أو المدرسة أو جماعة المسجد أو شلّة الأصحاب أو المكتبة. ويزداد التطرف مع استمرار انشغال الذهن بالفكرة، وينتابه إزاء الغير المختلف معه شعور سلبي مثل الكراهية وشعور بالعزلة -حسّياً أو معنوياً- والحاجة لمن يشاركه هواجسه ومشاعره. ولذلك ينجذب لكلّ ما يلبّى له هذه الحاجة ويقوّي ذاته، وهذا هو المنفذ الذي يدخل منه الفكر المتطرف إلى ذهن ذوي الشخصية المتطرفة. ومن ثَمّ تصبح الاستجابة لدعوة الالتحاق بالتنظيم والخضوع لتوجيهاته أمراً مفروغاً منه. التنظيم يحدّد وفق إستراتيجيته الأهداف التي يريد إصابتها وأسلوب التنفيذ، والمهم أن الأفراد الذين يختارهم ملائمون للمهمات بغض النظر عن المشاعر الدفينة التي دفعت كل فرد منهم لإنجاز مهمته -سواءً كانت مشاعر دينية أو طائفية أو سياسية أو طبقية. المنظمة إذن هي التي تصوغ عن طريق منظّريها ومشايخها نظريات الفكر الإرهابي المتطرف بتركيبها من أجزاء تنتقيها وتقتطعها من نصوص وأحكام واردة في المأثورات الدينية لتسوّقها في صيغة قاطعة لا تقبل الجدل أو الخلاف- هذا ينطبق على كل التنظيمات المتطرفة السنية والشيعية، ولكن الحديث هنا عن داعش ومثيلاتها. محاربة الفكر المتطرف بالطرق التقليدية لا تكفي لسببين: أن الرّدّ والاستهجان من المؤسسات الدينية الرسمية لا يؤخذ بجدية لأنه يصدر من جهات تتبع الحكومة التي تعاديها أصلاً. والسبب الآخر أن تلك المؤسسات لا تودّ أن تقرّر أن بعض ما ورد في كتب المذاهب والعلماء القدامى المعتبرين لا يصلح لزماننا هذا، ولو قرّروا ذلك سيقول التنظيم: إذن لماذا تدرّسون تلك الكتب بما فيها وترجعون إليها وتنشرونها؟
موجز القول إن هزيمة الفكر المتطرف ممكنة في حال تمّ إنجاز الآتي:
- الاستمرار في العمل بكل إصرار على القضاء على التنظيم الإرهابي وتوابعه ووسائل اتصاله وتمويله بجهود محلية ودولية؛ لأنه بزوال التنظيم ينقطع الحبل السرّي الذي يغذي الأنصار والأتباع بالفكر الإرهابي من جهة، ويزول الكيان الذي يلبّى حاجة المتطرفين والإرهابيين للشعور بالانتماء.
- توجيه خطباء المساجد والدعاة وأساتذة الشريعة والفكر الإسلامي ذوي التوجه العقلاني المعتدل بأن يتولّوا تفنيد أباطيل الفكر الإرهابي واحدة واحدة، حتى لو تعلق ذلك بفتاوى وآراء علماء القرن الهجري الثاني وما بعده، وتصحيح المعاني المقصودة منها.
- التركيز في مناهج الدين والثقافة الإسلامية بالتعليم العام على تعلّم الأساسيّ من العبادات والأوامر والنواهي الصريحة، وتعاليم الدين حول الأخوّة والتسامح والاعتدال، وحقوق الإنسان والأخلاق الفاضلة والعدل، ومقاصد الشريعة.
- تعريف الطلاب بأنظمة الدولة ذات المساس بأمور حياتهم - باعتبار أنها صادرة من وليّ الأمر الذي تجب طاعته شرعاً.
- إعطاء المدرسة دوراً اجتماعياً من خلال مناهج التربية الوطنية مثلاً والنشاطات اللامنهجية، بغرض تجسير العلاقة المنقطعة بين شباب اليوم ومجتمعهم.