عبدالله بن محمد السعوي
الإقصاء الفقهي تتنامى معدلاته ويحضربكثافة لافتة حينما يضعف مستوى الرصيدالأخلاقي وتتراجع وتيرته أوحينما ينخفض منسوب المعرفة المعرفة العامة بشكل عام والمعرفة الفقهية على وجه الخصوص, ولوتمعنت في المسيرة الفقهية سواء في التاريخ القديم أوفي تاريخنا المحلي وخصوصا في العقود القريبة المنصرمة لألفيت خرائط الانتماءات الفقهية متخمة بمثل تلك الصور الحدية كإفراز تلقائي لحقبة زمنية طغى فيها منهج التنفير وساد فيها مفهوم الهجروالمنابذة المفتقرة لما يسوغها!
ورغم شيوع حالات المفاصلة وتمدد هذا الاتجاه على أكثرمن صعيد إلا أن هذا لم يكن علاجا ناجحا بل استفحلت عوامل الركون الى دواعي الضاغط النمطي، ومن ثم ظل كلٌ على منهجه يدور في فلك ذاته لايتزعزع عنه قيد أنملة، وعلى نحو فوت علينا الكثيرمن الفرص وصادر الكثيرمن المكتسبات الاجتماعية والتنموية العالية، وفكك عرى التلاحم في ظل سياق زمني يعيش فيه العالم من حولنا بشكل تكتلي مؤسسي ولم نجن من كل هذا التنافر الهائل ومن كل تلك الاسقاطات الاستفزازية المتبادلة الهادرة حينا والخافتة في حين آخر لم نجن منها غير المزيد من توتير الأجواء والمزيد من العداوات الشرسة التي بعض صورها لازالت ماثلة كشاهد مرحلي حي تحولت جراءة المواقف الفقهية الى مواقف عقدية - أو هكذا تبدو من خلال النفَس الملحوظ في الأدبيات العامة - وبشكل وسع الهوة وعمق الفجوة وعزز من نشوء حالات الاصطدام! هذاالتحارب والإقصاء الفقهي له عدة أسباب من أبرزها مايلي:
1- حمل كلام المخالف على وجه مشوه وبطريقة تفتح المجال لإدانته وتعزز فرص مؤاخذته والتثريب عليه وتعريضه لسياط من النقد بل والهجوم الهجائي العاصف! وقديما، كما في (التاريخ لابن عساكر) قال عمربن الخطاب رضي الله عنه:» من عرّض نفسه للتهمة فلا يلومن من أساء به الظن, ولاتظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءا تجد لها في الخير محملا, وضع أمرأخيك على أحسنه حتى يأتيك منه ما يغلبك»(47/35)
من المعروف أن الكلام ملك للمتكلم, فتفسيره له أولى من تفسير سواه وتأويله لمحتواه مقدم على تأويل غيره, ومادام أن كلامه فضفاضا أو يحتمل أكثرمن معنى ونظامه اللغوي مفتوح على أكثرمن احتمال دلالي فليس من المسوغ أن نحصره في بُعد دلالي واحد أوأن نُحمل كلامه ما لا يحتمل لا لشيء إلا طمعا في استهدافه والنيل من قيمته والتطاول على شخصيته، سواء كانت تلك الشخصية حقيقية أواعتبارية. طبعا كون الكلام حمال أوجه هذا لا يمنع من نقده، ولكن مع استصحاب أسلوب الاحتراز والتأكيد على أنه إن كان المعنى المراد كذا فهو صواب أو أقرب إلى الرجحان، وإن كان المعنى كذا فهو فاقد لشرط الصوابية، وبالتالي فهو إلى المرجوحية أقرب.
و(ابن تيمية) بدوره قد أشار إلى هذه القضية مؤكدا أنه :» من أعظم التقصير نسبة الغلط إلى متكلم مع إمكان تصحيح كلامه وجريانه على أحسن أساليب كلام الناس، ثم يُعتبر أحد الموضعين المتعارضين بالغلط دون الآخر»(الفتاوى 31/114).
.. يتبع