عبدالله بن محمد السعوي
تقديس الشخص والذوبان في كينونته فضلاً عن أنه يقتل التربية المعيارية المتكئة على الإقناع وبناء المعايير الجوهرية لوعي الحقائق والتفريق بين الخطأ والصواب، فضلاً عن كل هذا فهو أيضاً يرسم في الأذهان -ليس لدى العوام بل وحتى الخواص!- انطباعات سلبية تترك وراءها عقدا تتجذر حتى تظل من الدوافع -الخفية حينا والمعلنة حينا آخر- التي توجه بوصلة التفكير بل وتتحكم في مسارات السلوك. إن أدبيات الدين الحنيف تتعارض تماما مع التقديس الإمعي المفرط حتى ولو كان ذلك مع مقام النبوة الرفيع «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم إنما أنا عبد ولكن قولوا: عبدالله ورسوله» تنصيص صريح قطعي ومباشر في النهي عن تمجيد الرموز وتصنيم القيادات ومنحها مكانة اعتبارية باذخة لأنها مع الأيام ستتحول في قلوب المعجبين والأحباب إلى أوثان معنوية, مع الوقت تستحيل هذه الرموز -أيا كانت- إلى أصنام يدان لها بالولاء التام والطاعة المطلقة وعلى نحو يجعلنا أمام ضرب من الاعتداء والتطاول على جناب التوحيد الذي نفقد الاتجاه حينما ننفض عنه ونتوه بعيدا عن مداراته المرسومة!
الجملة النبوية أعلاه -وهي جملة مكتنزة بطبقات الدلالة الحَرِية بالاشتغال عليها وعياً وتنزيلاً- تقرر في إحدى دلالاتها المقاصدية أن التقديس حجاب يحجب الوعي عن التفكير السليم -ليس في الفقه فحسب بل في المجالات كافة- ومن ثم تتشوه رؤيته وتتعرقل حركته فلا يمضي في الاتجاه الصحيح وإن مضى فبتثاقل سلحفاتي إذ إن أجواء محبطة كهذه تضعف وبالضرورة الحاسة النقدية التي ستضمر -إن لم تنطفئ!- ملكتها وإن استيقظت ذات صحوة ما وصار لديها أثارة من نقد موضوعي فهي لا تستطيع البوح به وليس أمامها إلا أن تلوذ بالانكفاء لأن سلوكاً كهذا هو مدان منذ لحظات تشكله الأولى ليس لأنه انشقاق على الشخصنة التي تعمقت جذورها فحسب، بل هو تمرد على السياق العام المحيط الذي ألِف التعاطي مع الحقائق مبتورة حتى أضحى ذلك جزءًا من تكوينه وعلى نحو يتعسر عليه مدافعته لو أراد ذلك يوماً ما!
إن الدوران في فلك الشخص أو الاستسلام لكاريزمية الطريقة أو المذهب -أي مذهب- والفناء الميكانيكي في متبنياته والخضوع لأدبياته -كسلطة فقهية ضاغطة- والتعاطي معه بوصفه الحد المعياري للتفقه المبرهن كل هذا أمر من شأنه ليس فقط أن يطيل أمد هجوع الذاكرة الساكنة بل ويقود إلى تزايد -بل تغلغل- ذلك النفَس الانكفائي الذي حينما يستفحل ويتفاقم حضوره فلاشك أنه حينئذ سينمط الوعي وسيضعف فاعليته وسيقلل تلقائيا من درجة الانصاف وعلى نحو يعجز المرء جراءه أن يتصور -فقط مجرد تصور!- أن الفقه مدارس متعددة واجتهادات متباينة يتعذر حصرها في مسار اجتهادي واحد يتم أطر الآخرين على استهلاكه والانحياز إلى خياراته... يتبع